
فلماذا تخوض أمريكا الحروب فعلًا؟ وما هي العقيدة التي تنقلها من أزمة إلى أخرى، ومن تدخل إلى آخر، دون محاسبة أو تراجع؟
1. السردية المُعلنة: الحرية مقابل الخوف
منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، رسّخت واشنطن صورتها كحامية "النظام الدولي"، معتبرة أن أمنها يبدأ من خارج حدودها. تبنّت شعار "العالم الحر" في مواجهة الشيوعية، ثم انتقلت بعد 11 سبتمبر إلى شعار "الحرب على الإرهاب". في كل مرة، يُعاد تدوير المبررات: حماية الحلفاء، الدفاع الاستباقي، نشر الديمقراطية، مساعدة الشعوب المضطهدة.
هذا الخطاب يقدّم صورة أخلاقية مُعلّبة، تُخفي وراءها مشاريع أبعد بكثير من مساعدة المظلومين.
2. الدوافع الحقيقية: الهيمنة بصيغ جديدة
وراء الشعارات، تتكرّر أنماط دوافع الحرب الأمريكية في معظم المناطق:
- السيطرة الجيوسياسية: منع تشكّل قوى إقليمية منافسة (مثل إيران أو الصين أو روسيا).
- النفط والطاقة: تأمين موارد الطاقة عبر الحروب أو التحكم بممراتها (العراق، ليبيا، الخليج، بحر الصين).
- حماية إسرائيل: تدمير البُنى العسكرية في محيطها (العراق، سوريا، لبنان).
- السوق والسلاح: فتح أسواق جديدة لإعادة الإعمار، وتحريك الاقتصاد الحربي عبر صفقات بمليارات الدولارات.
- هندسة العالم: فرض النظام الليبرالي النيوليبرالي بالقوة، لا بالتراضي.
3. أساليب التنفيذ: بين الغزو والوكالة
لا تخوض أمريكا الحروب بشكل واحد، بل تنوّع أدواتها حسب الظرف والبيئة:
- غزو مباشر كما في العراق وأفغانستان.
- تدخل عبر حلفاء ووكلاء كما في سوريا وليبيا.
- حروب بالوكالة تمولها وتديرها من الخلف.
- تطويق عسكري بالقواعد دون قتال مباشر (أكثر من 800 قاعدة أمريكية حول العالم).
- حروب اقتصادية عبر العقوبات والحصار والضغط المالي.
- تجهيز إعلامي لتشكيل الرأي العام قبل التدخل، وصناعة "العدو" المناسب.
4. النتائج الحقيقية: ديمقراطية مشوّهة وخراب دائم
نادرًا ما تؤدي الحروب الأمريكية إلى استقرار. بل غالبًا ما تترك خلفها:
- دولًا مفككة بلا مؤسسات أو سيادة.
- مجتمعات مدمّرة تهجرها العقول وتغزوها الطائفية أو الفوضى.
- نزيفًا اقتصاديًا داخليًا وخارجيًا.
- فقدان الثقة الدولية في خطاب واشنطن ومزاعمها.
- صعود قوى مضادة كرد فعل على الفوضى (كالجماعات المسلحة أو النفوذ الروسي/الصيني البديل).
5. من يدفع الثمن؟ ومن يربح؟
- الخاسر الأول: الشعوب التي استُهدفت بـ"التحرير".
- الخاسر الثاني: دافعي الضرائب الأمريكيين، الذين يُموّلون الحروب ولا يستفيدون من نتائجها.
- الرابح الأكبر: شركات السلاح، اللوبيات العسكرية، ومراكز النفوذ داخل الدولة العميقة.
الحروب بالنسبة لهذه المؤسسات ليست طارئًا، بل جزء من "الاقتصاد المستدام".
6. هل تغيّرت العقيدة الأمريكية؟ لا
رغم تغيّر الإدارات الأمريكية (جمهورية وديمقراطية)، لم تتغيّر العقيدة الجوهرية.
الاختلاف فقط في اللغة المستخدمة، أما أدوات الضغط والسيطرة فهي نفسها:
- بايدن يستخدم "حقوق الإنسان".
- ترامب استعمل "أمريكا أولًا".
- بوش روّج "الحرب الاستباقية".
خاتمة: حرب بلا نهاية
الحروب الأمريكية ليست حوادث فردية، بل جزء من رؤية متكاملة لإدارة العالم.
ولذلك فإن فهم العقيدة التي تُبرّرها وتُديرها هو الخطوة الأولى نحو كشف زيف الخطاب، وتفكيك البنية التي تجعل من الحرب "حقًا مشروعًا" حين تخوضه واشنطن، و"إرهابًا" حين يُمارسه الآخر.
إنها ليست فقط عقيدة سياسية، بل منظومة متكاملة من القوة، المال، الإعلام، والمصالح.