
فما الذي حدث فعلاً في العراق؟ ولماذا كان غزو بغداد لحظة فاصلة في إعادة تشكيل الشرق الأوسط؟ وهل كان الهدف هو صدام، أم شيء أوسع بكثير؟
1. السردية المُعلنة: "تحرير العراق من الديكتاتورية"
روّجت واشنطن لغزو العراق بذريعة "نزع أسلحة الدمار الشامل" التي قيل إن النظام العراقي يملكها، إلى جانب مزاعم دعم الإرهاب، واضطهاد الشعب، وضرورة "نشر الديمقراطية".
تصدّر كولن باول المشهد في الأمم المتحدة بعرض صور وملفات تؤكد هذه المزاعم، ليتبيّن لاحقًا أن معظمها مفبرك أو مضلّل. الإعلام الأمريكي والدولي عمل على تضخيم الخطر، وتحوّل صدام حسين إلى رمز مطلق للشر، كأنه ليس إلا ستارًا يُغطّي ما هو أخطر.
2. الدوافع الحقيقية: تدمير ميزان القوى وتدشين الشرق الأوسط الجديد
لم تكن الحرب ردّ فعل على خطر آنيّ، بل تنفيذًا لمشروع استراتيجي طويل المدى:
- تدمير جيش عربي كان يُعدّ تهديدًا محتملًا لإسرائيل في أي صراع قادم.
- السيطرة على ثاني أكبر احتياطي نفطي في العالم، وضمان تدفقه بالدولار.
- تحويل العراق إلى ساحة نفوذ أمريكية دائمة قرب إيران وسوريا والخليج.
- نقل النموذج النيوليبرالي القائم على الخصخصة والانفتاح القسري.
- إعادة تشكيل الخريطة الطائفية والإثنية في الشرق الأوسط لتسهيل التحكم طويل الأمد.
3. أساليب التنفيذ: غزو كامل وتحطيم الدولة
لم تكتفِ أمريكا بإسقاط النظام، بل حطّمت الدولة العراقية بكامل مؤسساتها:
- تفكيك الجيش والمؤسسات الأمنية بموجب قرار بريمر سيء السمعة.
- فرض دستور طائفي رسّخ الانقسام العرقي والمذهبي بدل المواطنة.
- إنشاء نظام محاصصة طائفية يخدم النفوذ الأمريكي، ويُبقي البلاد رهينة الفوضى.
- فتح أبواب البلاد لكل القوى المتصارعة، بما في ذلك الجماعات الجهادية المدعومة أو المتروكة عمدًا لتبرير البقاء العسكري.
4. النتائج: من الدولة إلى الهاوية
بعد أكثر من 20 عامًا على الغزو، ماذا بقي من العراق؟
- مئات الآلاف من القتلى وملايين المهجرين.
- نظام سياسي مشوّه قائم على الفساد والمحاصصة والطائفية.
- تحوّل البلاد إلى ساحة تصفية حسابات دولية بين إيران والولايات المتحدة وتركيا.
- تفريخ تنظيمات متطرفة مثل داعش، كرد فعل مباشر على انهيار الدولة.
- اقتصاد تابع قائم على النفط فقط، ومفتوح بالكامل للشركات الأجنبية.
5. الفاتورة: من الذي استفاد؟
- الشركات الأمريكية الكبرى مثل هاليبرتون وبيكتل وغيرها، جنت عشرات المليارات من عقود "إعادة الإعمار".
- إسرائيل كأكبر مستفيد استراتيجي من تدمير العراق.
- لوبيات السلاح والطاقة التي دفعت نحو الحرب وكافأها النظام الأمريكي لاحقًا.
- أما الشعب العراقي، فقد دُفع نحو التمزق والضعف والاغتراب عن ذاته وتاريخه.
6. ارتدادات الغزو: زلزال جيوسياسي ممتد
- الربيع العربي جاء في ظلال العراق: المثال الفاشل للديمقراطية الأمريكية.
- الثقة بالنموذج الغربي تراجعت في كامل المنطقة.
- إيران تمددت أكثر في فراغ ما بعد الاحتلال.
- روسيا والصين رأتا درسًا في تجاوز واشنطن للشرعية الدولية دون عقاب.
خاتمة: العراق لم يكن نهاية الحرب.. بل بدايتها
غزو العراق لم يكن حدثًا معزولًا، بل علامة على الانتقال إلى مرحلة جديدة من "الهيمنة بالقوة". وما حصل بعده في ليبيا وسوريا وأفغانستان واليمن، هو سلسلة ارتدادات لزلزال بغداد.
لقد كانت الحرب إعلانًا صريحًا عن أن أمريكا مستعدة لاجتياح الدول، وتمزيق خرائطها، متى رأت أن مصالحها مهددة. لكن العراق أيضًا كان نقطة الانكشاف: فالحرب كشفت زيف الخطاب، وفشلت في بناء نموذج يُحتذى، وفتحت أبواب الشك في الشرعية الدولية ذاتها.
ولذلك، فإن فهم ما جرى في العراق ليس فقط ضرورة لفهم الماضي، بل لفهم الحاضر والمستقبل أيضًا.