الحروب الأمريكية: أفغانستان: الإمبراطورية التي عادت مهزومة

لم تكن أفغانستان مجرد ساحة حرب أخرى، بل كانت بمثابة "اختبار الإمبراطورية". فحين غزت الولايات المتحدة هذا البلد النائي، بدت وكأنها تخوض حربًا أخلاقية لا لبس فيها: الرد على هجمات 11 سبتمبر، والقضاء على طالبان، ومحاربة الإرهاب. لكنها بعد عشرين عامًا من الاحتلال، انسحبت فجأة، مهزومة استراتيجيًا، وخلفها فوضى، وخيبة حلفاء، وسؤال مفتوح: ماذا حققت أمريكا؟ ولماذا فشلت؟ وهل كانت حقًا تبحث عن "العدالة"، أم عن شيء آخر؟

1. السردية المُعلنة: مطاردة القاعدة وتحرير النساء

بُني الغزو الأمريكي على مبرر مباشر: الرد على هجمات 11 سبتمبر، وتفكيك قواعد تنظيم القاعدة في أفغانستان.
لاحقًا، توسّعت السردية لتشمل أهدافًا "إنسانية":

  • إسقاط طالبان لأنها ترفض الحداثة.
  • تحرير المرأة الأفغانية من القيود الدينية.
  • إقامة "ديمقراطية حديثة" على النمط الغربي.

الإعلام الأمريكي رسم صورة ملحمية لمعركة الخير ضد الشر، وكأن الحرب مقدسة. لكن الواقع لم يكن كذلك.

2. الدوافع الحقيقية: ما وراء الجبال والعمائم

أفغانستان لا تملك ثروات نفطية ضخمة، لكن أهميتها تكمن في موقعها الجيوسياسي الفاصل بين:
الصين، روسيا، إيران، باكستان. من هنا كانت دوافع الحرب أكثر تعقيدًا:

  • إعادة تثبيت الهيبة الأمريكية عالميًا بعد ضربة 11 سبتمبر.
  • محاصرة النفوذ الروسي والصيني في آسيا الوسطى.
  • تحويل البلاد إلى قاعدة أمامية دائمة في قلب آسيا.
  • ضمان خطوط عبور الطاقة من بحر قزوين دون المرور بروسيا أو إيران.
  • استعراض القوة لإرسال رسالة للعالم: "أمريكا لا تُضرب بلا عقاب".

3. أساليب التنفيذ: احتلال معولم

  • دخلت أمريكا بأوسع تحالف دولي تحت راية "الناتو".
  • أُنشئت حكومة أفغانية موالية من المنفى، سرعان ما غرقت في الفساد والمحسوبية.
  • أُنشئت قواعد ضخمة، واختُبرت فيها أحدث تقنيات الحرب.
  • جُندت عشرات الشركات الخاصة (بلاك ووتر وغيرها) لتنفيذ المهام القذرة.
  • فُرضت منظومة تعليم وقانون وإعلام مستنسخة من النمط الأمريكي، بلا جذور اجتماعية.

4. النتائج: الديمقراطية الورقية وسقوطها الفوري

رغم كل شيء، انهارت الدولة التي بنتها أمريكا خلال أسبوعين فقط بعد الانسحاب، مما كشف:

  • هشاشة النظام المفروض خارجيًا.
  • غياب الولاء الشعبي للحكومة العميلة.
  • استمرار حضور طالبان في العمق القبلي والاجتماعي.
  • فشل "مشروع بناء الدولة" رغم مليارات الدولارات التي أُنفقت.

لقد سقطت كابول كما سقطت سايغون قبلها: تحت أقدام الذين قيل إنهم هُزموا.

5. من الذي ربح ومن الذي خسر؟

  • الولايات المتحدة خسرت استراتيجيًا: الهيبة، الصورة، الثقة.
  • طالبان ربحت بالانتظار: انسحبت أمريكا وعادت هي بلا قتال.
  • الشعب الأفغاني خسر عقدين من الدماء والانقسام.
  • الشركات الأمريكية ربحت: عقود الإعمار، السلاح، تدريب الجيوش، حتى زراعة الأفيون ازدهرت في ظل الاحتلال.
  • الصين وروسيا راقبتا الدرس: أن أمريكا لا تستطيع بناء دولة، ولا حسم معركة.

6. ارتدادات الفشل: من كابول إلى واشنطن

  • أصيب الرأي العام الأمريكي بالإرهاق من "الحروب التي لا تنتهي".
  • ازدادت الأصوات المنادية بالانعزال وتقليص التدخلات.
  • تحطّمت صورة "الجيش الذي لا يُقهر".
  • صُدم حلفاء أمريكا من طريقة الانسحاب المفاجئ.
  • تراجعت الثقة بالناتو كأداة فعّالة في الحروب الطويلة.

خاتمة: الدرس الذي لا يُراد تعلّمه

ربما كانت أفغانستان أكثر من مجرد هزيمة عسكرية: كانت فضيحة استراتيجية، كشفت أن القوة لا تصنع استقرارًا، وأن الشعوب لا تُبنى بالقنابل. لكنها أيضًا لم تكن استثناءً، بل جزءًا من نفس العقلية التي تحكم الحروب الأمريكية:
الحل دائمًا عسكري، والمشكلة دائمًا خارج الذات الأمريكية.

لكن الانسحاب من كابول لم يُنهِ هذا النمط. لقد غيّر فقط شكله. فالحروب ما زالت مستمرة: أحيانًا بطائرات، وأحيانًا بعقوبات، وأحيانًا بوكلاء.
وأفغانستان؟ تُركت مرة أخرى لمصيرها، بعد أن كانت "المختبر الأخلاقي" لعقود من الوهم.

+
أحدث أقدم

ويجيد بعد المقال


تنويه: هذا المقال (أو المحتوى) يقدم تحليلاً إعلامياً موضوعياً، ويخلو تماماً من أي تحريض أو دعوة للعنف، ويعكس رؤية نقدية متوازنة للأحداث، مع الالتزام التام بالأطر القانونية والمعايير المهنية.

✉️ 📊 📄 📁 💡