الحروب الأمريكية: فيتنام: عندما كسرت الغابة جبروت الإمبراطورية

لم تكن حرب فيتنام مجرد مواجهة عسكرية بين الشيوعية والرأسمالية، بل كانت واحدة من أكثر الحروب كلفة للولايات المتحدة معنويًا واستراتيجيًا. هي الحرب التي كشفت هشاشة القوة الأمريكية حين تواجه شعبًا متجذرًا في أرضه، ومصممًا على المقاومة حتى الرمق الأخير. لقد كانت فيتنام ميدانًا فاضحًا لعقيدة التدخل الأمريكية، ونقطة مفصلية أعادت تشكيل نظرة الداخل الأمريكي لدور بلاده في العالم.

أولًا: الدوافع الأمريكية – الوهم والخوف

دخلت واشنطن فيتنام بذريعة "منع تساقط قطع الدومينو الشيوعي"، ضمن استراتيجية احتواء النفوذ السوفيتي. لكن خلف هذا الخطاب، كانت الولايات المتحدة تدافع عن هيبتها الإمبراطورية، وترسل رسالة إلى العالم مفادها: لا أحد يتحدى النظام العالمي الجديد الذي تتزعمه واشنطن. لم تكن فيتنام دولة ذات موارد استراتيجية ضخمة، لكنها كانت من وجهة نظر صانعي القرار الأمريكيين اختبارًا لمدى "هيبة الردع" الأمريكي بعد الحرب الكورية.

ثانيًا: أدوات التنفيذ – القصف ثم القصف ثم القصف

بدأ التدخل الأمريكي على شكل دعم استشاري وتقني لحكومة جنوب فيتنام، ثم تطوّر إلى حرب شاملة استخدمت فيها الولايات المتحدة كل ترسانتها ما عدا السلاح النووي. أُلقي على فيتنام ما يزيد عن 7 ملايين طن من القنابل، واستخدمت فيها المواد الكيميائية مثل "العامل البرتقالي" لتدمير الغابات والمحاصيل. ومع ذلك، أثبتت الجغرافيا والعزيمة الفيتنامية أن التكنولوجيا لا تكسب الحروب وحدها.

ثالثًا: النتائج – الإمبراطورية تجرّ أذيال الهزيمة

خرجت أمريكا من فيتنام في عام 1975 بعد سقوط سايغون، منهزمة ميدانيًا ومخدوشة السمعة أخلاقيًا. فقدت أكثر من 58 ألف جندي، ومئات الطائرات، وواجهت موجة احتجاجات داخلية غير مسبوقة. تراجعت الثقة الشعبية في مؤسسات الدولة، وتبلورت لأول مرة حركة واسعة تطعن في شرعية التدخلات الخارجية. فيتنام كانت الحدّ الذي انكسرت عنده "عقيدة الانتصار الأمريكي السريع"، وبدأت واشنطن بعدها تبحث عن طرق جديدة لتخوض حروبًا دون أن تظهر في الصورة.

رابعًا: المفارقة – كيف انتصرت فيتنام رغم فارق القوة؟

انتصرت فيتنام ليس فقط بالبسالة العسكرية، بل بامتلاكها "سردية التحرر" في مواجهة استعمار جديد بثوب أمريكي. استطاعت أن توحد فئاتها المختلفة خلف هدف واضح: طرد المحتل. في المقابل، فشلت أمريكا في تبرير وجودها حتى لحلفائها، وكانت خسائرها الأخلاقية تفوق العسكرية. كان الإعلام الحر داخل أمريكا، والنقل التلفزيوني المباشر لمشاهد القصف والمجازر، من أكبر أسباب انهيار الدعم الشعبي للحرب.

خاتمة:

حرب فيتنام كانت أكثر من حرب، كانت لحظة انكشاف. هي نقطة سوداء في كتاب التدخلات الأمريكية، تذكّرنا بأن الجيوش لا تنتصر فقط بالدبابات، بل بالإرادة والسردية والحق التاريخي. هي الدرس الذي حاولت واشنطن أن تنساه في العراق وأفغانستان، لكنها ما زالت تدفع ثمنه حتى اليوم.

+
أحدث أقدم

ويجيد بعد المقال


تنويه: هذا المقال (أو المحتوى) يقدم تحليلاً إعلامياً موضوعياً، ويخلو تماماً من أي تحريض أو دعوة للعنف، ويعكس رؤية نقدية متوازنة للأحداث، مع الالتزام التام بالأطر القانونية والمعايير المهنية.

✉️ 📊 📄 📁 💡