الحروب الأمريكية: بنما: أولى التجارب في إسقاط السيادة بالقوة

لم تكن غزوة بنما عام 1989 مجرّد عملية عسكرية محدودة لإلقاء القبض على زعيم مارق كما ادّعت الرواية الأمريكية، بل كانت خطوة فارقة في بلورة العقيدة الجديدة للتدخل العسكري بعد الحرب الباردة. في هذه الحرب القصيرة، اختبرت واشنطن أدواتها في تقويض السيادة الوطنية بالقوة، وفرض أنظمة موالية تحت غطاء الشرعية الدولية ومحاربة المخدرات، لتعلن لاحقًا ميلاد مرحلة جديدة في العلاقات الدولية عنوانها: من لا يخضع طوعًا... يُطاح به جبرًا.

أولًا: السياق السياسي والاستراتيجي

شهدت أمريكا اللاتينية خلال السبعينيات والثمانينيات صراعًا محتدمًا بين المد التحرري اليساري المدعوم من كوبا والاتحاد السوفييتي، وبين أنظمة عسكرية يمينية مدعومة من واشنطن. كانت بنما — بصفتها حلقة استراتيجية تمرّ عبرها قناة بحرية شديدة الأهمية — تحت المجهر الأمريكي دومًا، خصوصًا مع تنامي النزعة الوطنية فيها بقيادة مانويل نورييغا، الرجل القوي الذي عمل سابقًا لصالح الـCIA ثم تمرد على إملاءاتها.

أرادت الولايات المتحدة أن تؤكد — مع اقتراب نهاية الحرب الباردة — قدرتها على التدخل الحاسم دون الحاجة لموافقة الأمم المتحدة، وأن ترسل إشارة قوية لبقية "حديقتها الخلفية" بأن الاستقلال السياسي عن واشنطن له ثمن باهظ.

ثانيًا: الدوافع الحقيقية للتدخل

بينما روّجت واشنطن لذريعة "محاربة المخدرات" و"الدفاع عن المواطنين الأمريكيين"، فإن الأهداف الحقيقية كانت أعمق:

  • التحكم بقناة بنما وضمان انتقالها لاحقًا إلى حكومة موالية.
  • ضرب النزعة القومية التي بدأت تخرج عن الطوق الأمريكي في أمريكا اللاتينية.
  • تجريب نموذج الغزو السريع الذي سيُعاد استخدامه لاحقًا في العراق وأفغانستان.
  • إعادة ترميم صورة الهيمنة الأمريكية بعد سلسلة إخفاقات في لبنان وإيران وفيتنام.

ثالثًا: التنفيذ العسكري والإعلامي

في ديسمبر 1989، شنّت القوات الأمريكية عملية "العدالة الحقيقية" بمشاركة نحو 27 ألف جندي، مع استخدام كثيف للطيران والمدفعية. أُصيب آلاف المدنيين البنميين، ودمّرت أحياء بأكملها، لكن الإعلام الأمريكي ركّز فقط على "اعتقال نورييغا" وتقديمه للمحاكمة.

بالتوازي، أدارت واشنطن حملة إعلامية محكمة صورت العملية كـ"تحرير لبنما من الطغيان"، وساهمت في تلميع الوجه الإنساني للتدخل العسكري، في نمط سيتكرر لاحقًا في تدخلات أخرى.

رابعًا: النتائج والتداعيات

  • سياسيًا: نُصّبت حكومة موالية لواشنطن، وأُقصي رموز النزعة القومية.
  • استراتيجيًا: أُرسيت سابقة خطيرة للتدخل العسكري بذريعة حماية الأمن الأمريكي خارج الحدود.
  • قانونيًا: لم تُعترف العملية من قِبل الأمم المتحدة، لكن واشنطن لم تُحاسب، مما عمّق منطق الاستثناء الأمريكي.
  • إعلاميًا: ساهمت التجربة في تطوير أساليب صناعة السرد وتبرير التدخلات.

خامسًا: الدروس المستخلصة من تجربة بنما

تُعد عملية بنما أولى حلقات "الحرب الوقائية" قبل أن تُشرعنها واشنطن لاحقًا في العراق، وهي تُجسّد بوضوح كيف يمكن استخدام القوة العسكرية لإعادة رسم خرائط النفوذ، دون اعتبار للسيادة أو القانون الدولي.
لقد أصبحت بنما نموذجًا مصغرًا لما ستُمارسه الإمبراطورية لاحقًا في مناطق أكبر، وأكثر تعقيدًا.

خاتمة

لم تكن بنما سوى بروفة علنية لمستقبل ما بعد الحرب الباردة، حيث لا صوت يعلو على صوت القوة، ولا قانون يكبح جماح الطموح الإمبراطوري الأمريكي. وما حدث هناك، لم يكن حادثًا عرضيًا، بل نقطة انطلاق لمشروع إعادة هندسة العالم وفق مشيئة واشنطن.

+
أحدث أقدم

ويجيد بعد المقال


تنويه: هذا المقال (أو المحتوى) يقدم تحليلاً إعلامياً موضوعياً، ويخلو تماماً من أي تحريض أو دعوة للعنف، ويعكس رؤية نقدية متوازنة للأحداث، مع الالتزام التام بالأطر القانونية والمعايير المهنية.

✉️ 📊 📄 📁 💡