
هذا التباين ليس جديدًا، لكنه في هذه الحرب بلغ ذروته، ما يطرح سؤالًا بالغ الخطورة: هل دخلنا فعلاً في مرحلة ما بعد الشرعية؟ وهل باتت الهوّة بين الحاكم والمحكوم أعمق من أن تُردم بمجرد خطابات تخديرية؟
الغضب الشعبي: من الاحتقان إلى الاستعداد للفعل
لقد تجاوز الشعور الشعبي حدود التعاطف، إلى إدراك عميق بأن المعركة في غزة ليست محصورة هناك، بل تمتد إلى عمق كل عاصمة عربية، حيث تُدار السياسات بوصاية خارجية، وتُقمع الأصوات الحرة، وتُفرض قيود على التضامن. لذلك لم يعد كثير من المواطنين يرون في حكوماتهم حماة للمصالح القومية، بل وكلاء لحسابات دولية تخشى "غضب الغرب" أكثر من غضب الشارع.
ومع توسّع هذا الوعي، بدأنا نشهد تحولات ملموسة: موجة عارمة من المقاطعة الشعبية للمنتجات المرتبطة بالمحتل وداعميه، وارتفاع منسوب الغضب ضد التطبيع، وتكاثر الدعوات لاسترجاع القرار الوطني المختطَف.
أنظمة تخشى شعوبها أكثر من عدوها
من المفارقات الصارخة أن كثيرًا من الأنظمة العربية تتعامل مع شعوبها كخطر أكبر من الاحتلال نفسه. فبدلاً من إطلاق العنان لأشكال الدعم السياسي والميداني للمقاومة، تنشغل بعض الحكومات بمراقبة التظاهرات، وحجب المحتوى الإلكتروني، وملاحقة الأصوات الحرة. وهذا يكشف هشاشة البُنية السياسية الداخلية، وافتقارها للشرعية الشعبية الحقيقية، ويؤكد أن القلق الأكبر للأنظمة ليس من الخارج، بل من الداخل.
إلى أين يتجه هذا الشرخ؟
إذا استمرت الأنظمة في إدارة المشهد بهذه الذهنية الأمنية الجامدة، فستتعمّق الأزمة أكثر. الشعوب لم تعد تقبل بسياسات اللاموقف، ولا تقتنع بعد الآن بأن الشجب وحده كافٍ، ولا أن الصمت حكمة. ومتى ما بلغ السخط عتبة الانفجار، لن تكون المطالب رمزية، بل جذرية: استعادة القرار، إنهاء التبعية، وقف التنسيق مع العدو، وتحقيق عدالة داخلية تمهّد لكرامة خارجية.
لقد تعوّدت الأنظمة أن الشعوب تنفعل وتنسى. لكن هذه المرة، يبدو أن الوعي الجمعي يتغيّر. غزة كانت الشرارة، لكن الاحتراق الأكبر قد لا يكون بعيدًا.