أفغانستان وفلسطين: فشل الفهم قبل فشل الاحتلال

حين ينهزم المشروع الغربي في الشرق، فالهزيمة ليست في الميدان بل في العقل الذي خطّط للسيطرة.

الاحتلال في فلسطين وأفغانستان انهزم لأنّه جاء من عقلٍ لم يفهم طبيعة المنطقة ولا منطقها الداخلي.
كلا الاحتلالين ارتكب الخطيئة ذاتها: التعامل مع الجغرافيا كمساحةٍ خام، ومع الشعوب ككتلٍ قابلة لإعادة التشكيل، متجاهلين أن الشرق ليس أرضًا تنتظر البناء، بل حضارة متجذّرة تستعصي على إعادة الصياغة من الخارج.

أولًا: الاحتلال كقراءةٍ خاطئة للإنسان

جوهر فشل الاحتلالين أنهما لم يفهما الإنسان الذي أرادا إخضاعه.
في فلسطين، تصوّر الغرب أن “الحداثة” يمكن أن تمحو ذاكرة الأرض، وأن “التفوّق التكنولوجي” كافٍ لإخضاع شعبٍ بلا دولة. لكنّ النتيجة كانت عكسية: فكلما تمدّدت إسرائيل في قوتها، تعمّقت الهويّة الفلسطينية في الوعي الجمعي.
وفي أفغانستان، ظنّ الأمريكيون أن الحرب قادرة على تحويل مجتمع قبلي محافظ إلى نسخة غربية ديمقراطية. لكنهم اصطدموا بحقيقة أن الهوية ليست نظام حكم بل منظومة وعيٍ وعقيدةٍ وتاريخٍ.

لقد خسر الاحتلالان معركتهما لأنهما خاطبا الجسد بالسلاح وتجاهلا الروح بالمعنى.
والقوة التي لا تفهم المعنى لا تنتصر أبدًا.

ثانيًا: سوء تقدير الجغرافيا السياسية

كلا المشروعين انطلق من سوء فهمٍ لبنية المنطقة.
الغرب رأى الجغرافيا الشرقية على الخريطة خطوطًا وممرات، بينما هي في حقيقتها نسيجٌ من الهويات والمقدّسات والعلاقات المعقّدة.
في فلسطين، تجاهل الغرب أن هذه الأرض هي محور الوعي العربي والإسلامي، وأن وجود كيان غريب فيها لن يستقر مهما طال الزمن.
وفي أفغانستان، لم يدرك الأمريكيون أن الجبال التي احتقروها هي حدود التاريخ نفسه، وأنها ابتلعت كل جيوش الغزاة من قبل: من البريطانيين إلى السوفييت.

فالمنطقة ليست فراغًا يُملأ، بل نظام مقاومة طبيعي يتفاعل ضد كل قوة تحاول فرض خارطة لا تشبهه.

ثالثًا: النتائج الاستراتيجية – حين يسقط المشروع في الميدان الرمزي

1. في فلسطين

الاحتلال الذي أراد أن يكون قاعدة دائمة تحول إلى عبءٍ استراتيجي على الغرب نفسه.
لم تعد إسرائيل ورقة ضغط، بل نقطة توتر دائم تُحرج النظام الدولي وتكشف ازدواجيته.
إنها الآن تواجه مأزقًا مزدوجًا:

  • فقدان الشرعية الأخلاقية أمام الرأي العام العالمي.

  • وانكشاف هشاشتها أمام تصاعد الفعل الشعبي والمقاوم الذي كسر احتكار القوة.

تحولت القضية الفلسطينية إلى مرآةٍ لضمير العالم، وكلما حاول الغرب التغطية على جرائم الاحتلال، انكشف أكثر أمام نفسه.

2. في أفغانستان

أما الاحتلال الأمريكي، فقد ترك وراءه دولةً مدمَّرة واقتصادًا منهارًا وشرعيةً غربية تتآكل.
الانسحاب من كابل لم يكن مجرد إخفاق عسكري، بل انهيار صورة الغرب كمرشدٍ حضاري.
فقد سقطت سردية “نشر الديمقراطية” تمامًا، وظهر أن الحرب كانت لإدارة المصالح لا لحماية القيم.
ومن رحم هذا الفشل، برزت قوى آسيوية وإقليمية جديدة تدير توازناتها بعيدًا عن الوصاية الغربية، وهو ما يعني أن واشنطن خسرت موقعها المركزي في قلب آسيا كما خسرته أوروبا من قبل في الشرق الأوسط.

رابعًا: التحوّل من الاحتلال إلى الإرباك

بعد فشل الاحتلالين، لم يتراجع الغرب عن مشروعه، بل غيّر شكله.
انتقل من السيطرة المباشرة إلى سياسة الإرباك الدائم:

  • إبقاء الصراع في فلسطين مشتعلًا بما يكفي لتبرير الهيمنة.

  • وإبقاء أفغانستان في فوضى محسوبة تمنع استقرارها الاقتصادي والسياسي.

هكذا تحوّل الاحتلال من وجودٍ فيزيائي إلى وصاية غير مرئية:
عقوبات، مساعدات مشروطة، ضغوط اقتصادية، وإعلام يصنع الوعي لصالح القوة الكبرى.
لكن هذه المرحلة أيضًا بدأت تتآكل، لأن الشعوب أصبحت تفهم اللعبة، وتقرأ خلف النصوص والشعارات.

خامسًا: النتائج القادمة – تراجع الوصاية وصعود الوعي

يبدو أن الشرق بدأ يخرج من دائرة “إدارة الغرب له” إلى مرحلة استعادة الوعي الذاتي.
فلسطين لم تعد تُقرأ كقضية سياسية بل كرمزٍ حضاريّ للممانعة.
وأفغانستان لم تعد توصف بـ“الدولة الفاشلة” بل بالدولة التي أفشلت مشروع الفرض الخارجي.

في العقد القادم، سيواجه الغرب أزمة مزدوجة:

  • انحسار الهيمنة العسكرية بعد فشل نموذج الاحتلال.

  • وانهيار الهيمنة المعنوية بعد سقوط سردية “الديمقراطية والحرية” في الاختبار الأخلاقي.

الشرق اليوم لا يثور بالسلاح فقط، بل بالفهم؛ يفكك الخطاب، ويقرأ اللغة التي كان يُخدَع بها.
وهذا هو أخطر ما يواجهه النظام الدولي: شعوبٌ لم تعد تصدّق الراوي القديم.

سادسًا: الاحتلال في المكان الخاطئ

الاحتلال في فلسطين وُضع في المكان الخطأ لأن فلسطين ليست أرضًا تُحتل، بل مقدّسٌ يتجاوز الجغرافيا.
والاحتلال في أفغانستان وُضع في المكان الخطأ لأن أفغانستان ليست دولة في مفهوم الغرب، بل جبلٌ من الهويات التي لا تُحكم إلا من داخلها.
كلا المشروعين تعامل مع المكان كما لو كان “قابلًا للتشكيل” بقرارات دولية، ففوجئ بأن المكان في الشرق ليس طوبوغرافيا بل ذاكرةٌ روحيةٌ متجذّرة.
ولذلك كان فشلهما حتميًا، لأن القوة التي لا تفهم الروح، مهما بلغت، تسقط في المكان الذي لا تنتمي إليه.

خاتمة

سقط الاحتلال في فلسطين لأنه واجه وعيًا متجذرًا في الأرض، وسقط في أفغانستان لأنه واجه هويةً متجذّرة في الجبل.
وفي الحالتين، انهزمت الهندسة الغربية أمام الطبيعة الشرقية، التي لا تُدار من الخارج ولا تُفهم من بعيد.
لقد كانت أفغانستان وفلسطين درسين متكاملين للعالم:
أن القوة المادية بلا فهمٍ حضاريّ لا تخلق استقرارًا، وأن من يظنّ أنه يحكم الأرض دون أن يفهم روحها، سيبقى يحارب في المكان الخطأ، ضد الشعب الخطأ، ولأسبابٍ لا يفهمها.

+
أحدث أقدم

ويجيد بعد المقال


تنويه: هذا المقال (أو المحتوى) يقدم تحليلاً إعلامياً موضوعياً، ويخلو تماماً من أي تحريض أو دعوة للعنف، ويعكس رؤية نقدية متوازنة للأحداث، مع الالتزام التام بالأطر القانونية والمعايير المهنية.