
تحررت أفغانستان حين اكتشفت أن القوة لا تُهزم بالقوة، بل بإسقاط سرديتها.
وسيتحرر الفلسطيني حين يدرك العالم أن الاحتلال ليس جيشًا فقط، بل نظام وعيٍ تفرضه الإمبراطورية.
الطريقان واحد: كلا الشعبين عاشا تحت الاحتلال باسم “الشرعية الدولية”، وقاوما في عالمٍ يرى حريته الخاصة حقًا مطلقًا، وحريتهم هم “تهديدًا للنظام”.
لكن الزمن تغيّر، وها هو الغرب يواجه الحقيقة ذاتها التي واجهها في كابل:
أن السيطرة على الشرق لم تعد قابلة للاستمرار.
أولًا: تحرر أفغانستان — سقوط الوصاية من الداخل
التحرر الأفغاني لم يكن انتصارًا عسكريًا بالمعنى الكلاسيكي، بل انهيارًا كاملًا لمفهوم الوصاية الغربية.
فعندما انسحبت أمريكا، لم تكن تهرب من المعركة، بل من عجزها عن إعادة تشكيل الإنسان والمجتمع وفق نموذجها.
لقد راهن الغرب على الزمن؛ أن مرور العقود كفيل بخلق “جيلٍ تابعٍ ثقافيًا”، لكنه فوجئ أن الزمن في الشرق لا يسير في خط مستقيم، بل يدور في دوائر الهوية، ويستدعي جذوره كلما حاول أحد اقتلاعها.
تحررت أفغانستان حين فشل المشروع الغربي في تحويلها إلى قاعدةٍ وظيفية، وحين أدرك العالم أن “القوة العظمى” التي وعدت العالم بالنظام الجديد تخرج مطأطئة الرأس أمام قبائل الجبال.
كان ذلك أكثر من انسحاب، كان انكشافًا رمزيًا لانتهاء فكرة الاحتلال الحديث.
ثانيًا: فلسطين في المرآة ذاتها
ما يحدث في فلسطين اليوم ليس مجرد تصعيدٍ ميداني، بل تحولٌ بنيوي في المعادلة التاريخية.
لقد استنفد الاحتلال الإسرائيلي كل أدوات السيطرة:
-
الردع العسكري لم يعد يزرع الخوف.
-
التطبيع السياسي لم ينتج استقرارًا.
-
والدعم الغربي لم يعد كافيًا لتغطية الفشل الأخلاقي.
إسرائيل اليوم تواجه ما واجهته أمريكا في أفغانستان: فقدان السيطرة على الزمن.
كلما مرّ عامٌ جديد، لا يقترب الاحتلال من النصر، بل من النهاية.
ذلك أن الاحتلال لا يُهزم حين يُجبر على الانسحاب، بل حين يفقد شرعية وجوده في الوعي العالمي.
وفلسطين الآن تمرّ بهذه المرحلة بالضبط:
العالم الذي كان يرى الصراع “نزاعًا سياسيًا”، بدأ يراه جرحًا أخلاقيًا يفضح النظام الدولي كله.
ثالثًا: وحدة الظروف التاريخية
ما يجمع أفغانستان وفلسطين اليوم أكثر مما يفرّقهما:
-
الاحتلال الخارجي المغلّف بشرعية دولية.
-
الوصاية الاقتصادية والإعلامية على الشعوب.
-
المقاومة التي وُصفت بالإرهاب لأنها لا تخضع للخطاب الغربي.
-
العجز الغربي عن فهم بنية الوعي المحلي.
وفي المقابل، تشترك الحالتان في المآلات المحتومة:
-
فشل الاحتلال في تثبيت الاستقرار.
-
تحوّل القوة إلى عبءٍ على صاحبها.
-
انتقال المعركة من الميدان العسكري إلى الميدان الرمزي، حيث تُكسر السرديات لا الجيوش.
تمامًا كما انهار الاحتلال الأمريكي حين فقد مبرّره، سيبدأ الاحتلال الإسرائيلي بالانهيار حين يفقد شرعيته الوجودية في الوعي الدولي.
رابعًا: التحوّل من مقاومة البقاء إلى مشروع التحرر
ما حدث في أفغانستان لم يكن انسحابًا وحسب، بل استعادة للقرار بعد عقودٍ من الوصاية.
وفي فلسطين، تتحول المقاومة تدريجيًا من معركة “البقاء” إلى مشروع “التحرر”.
لم يعد الفلسطيني يقاتل ليُسمع صوته، بل ليُسقط منطق القوة الذي صاغ الوعي العالمي لعقود.
لقد تغيّر شكل الصراع:
من دفاعٍ عن الأرض، إلى صراعٍ على تعريف العدالة نفسها.
وحين تصل الشعوب إلى هذه المرحلة، يبدأ الاحتلال في التفكك من الداخل، لأن القوة التي كانت تحكمها صورة “الضحية والإرهابي” لم تعد قابلة للتصديق.
خامسًا: فلسطين على طريق أفغانستان
كما تحررت أفغانستان حين فُقد الإيمان بالمشروع الأمريكي داخل مؤسساته نفسها،
ستتحرر فلسطين حين يفقد الغرب الإيمان بجدوى حماية الكيان الذي أصبح رمزًا لفشل النظام الدولي.
إنها عملية زمنية لا عسكرية؛
فكما تآكلت شرعية الاحتلال الأمريكي عامًا بعد عام حتى سقط فجأة،
فإن الاحتلال الإسرائيلي يتآكل الآن بنفس البطء الهادئ،
لكنّ كل انهيارٍ كبيرٍ يبدأ دائمًا بهذا البطء.
وما يبدو اليوم بعيدًا، هو في منطق التاريخ أقرب مما يُظن.
فحين يُصاب العالم بالتعب من تبرير الجريمة، يبدأ التاريخ في تصحيح مساره.
سادسًا: التحول العالمي — من كابل إلى القدس
انسحاب أمريكا من كابل لم يكن نهاية حربٍ محلية، بل نقطة انعطاف في التاريخ العالمي.
فقد كشف أن الغرب لم يعد قادرًا على فرض نموذجه بالقوة، وأن النظام الدولي يعيش على توازنه الرمزي أكثر من توازنه العسكري.
واليوم، فلسطين تسير في الطريق ذاته؛ لا لأنها تملك القوة، بل لأنها تكشف زيف القوة ذاتها.
وما تسقطه فلسطين في الوعي العالمي أخطر مما أسقطته أفغانستان:
لأنها لا تهزم جيشًا فقط، بل تُسقط أسطورة “الاحتلال الأخلاقي” التي تأسس عليها النظام الغربي منذ قرن.
خاتمة
تحررت أفغانستان حين خرج المحتل وهو لا يفهم كيف خسر.
وستتحرر فلسطين حين يخرج المحتل وهو لا يفهم كيف انهارت صورته.
الطريق واحد لأن المعادلة واحدة:
حين يُقاوم الوعي، تسقط القوة.
وحين تَستعيد الشعوب تعريف نفسها خارج الخطاب الغربي،
ينكسر كل احتلال مهما بدا ثابتًا.
فكما تحررت أفغانستان من “الوصاية بالقوة”، تتحرر فلسطين الآن من “الوصاية بالشرعية”.
وحين تلتقي التجربتان في ذاكرة العالم، سيُكتب التاريخ من جديد:
بأن الشرق لم يُهزم، بل كان ينتظر لحظته ليُعرّي الوهم الغربي كله.