
ليست هذه ظاهرة جديدة، لكنها لم تعد تُمارس في الخفاء كما في العقود الماضية، بل أصبحت شبه معلنة، بل ومُشرعَنة إعلاميًا باسم "التعاون" أو "الدعم الدولي للاستقرار". الواقع أن بعض الأنظمة لم تعد تمتلك هامشًا كافيًا من السيادة لتتحرّك دون تنسيق مسبق مع السفارات الكبرى، ولا سيما سفارات الدول التي ترعى مصالحها في المنطقة وتربط مساعداتها أو دعمها السياسي بمدى الانصياع لأجنداتها.
لكن الأخطر ليس في وجود تدخلات خارجية – فهذا حاصل في كل مكان – بل في أن البنية السياسية المحلية قد تحوّلت إلى بنية تابعة بالكامل، لا تملك إرادة حقيقية للفكاك من التوجيه الخارجي، حتى في أدقّ ملفات الأمن القومي. لقد أصبح السفير (في بعض الدول) بمثابة الحاكم الفعلي، تُفتح له الأبواب ويُغلق من دونه البرلمان، ويتحول أي تصريح له إلى رسالة ضمنية تُقرأ في أروقة القرار كما لو أنها أوامر نافذة.
هذه الحالة تُنتج طبقة سياسية محلية تعيش في فلك السفارة، لا تمثّل إرادة شعبها ولا تعبّر عن مصالحه، بل تجد في الانصياع أداة للبقاء، وفي التبعية ضمانًا للاستمرار، وفي صراع القوى الدولية فرصة للتموضع لا للتحرر. وهكذا، تُختزل الدولة في كونها غلافًا خارجيًا هشًا يُدار من وراء الستار.
من هنا لا يعود السؤال: من يحكم؟ مجرد ترفٍ نظري، بل هو مفتاح لفهم طبيعة الأزمات المتكررة في العالم العربي: أزمة تمثيل، أزمة سيادة، وأزمة شرعية. وعندما تتحول الدولة إلى مجرد وسيط بين الخارج والداخل، فإن الانفجار الشعبي لا يعود سوى مسألة وقت.