
من الحميمية إلى العلنية: تحوّل المعايير الاجتماعية
في العقود الماضية، كانت الحميمية تُصان، وتُعامل تفاصيل الحياة اليومية، والعلاقات العائلية، والتجارب الشخصية، كمساحات مغلقة لا تُكشف إلا بحدود. أما اليوم، فقد تغيّرت المعايير جذريًا؛ فالمنزل، والغداء، والأبناء، والمشاعر، والموت... كلها باتت "محتوى" قابلاً للنشر، بل و"قابلاً للتسويق".
صارت الخصوصية لا تُقيَّم إلا بمدى قدرتها على الإثارة أو الجذب أو صناعة التعاطف. والمثير في الأمر أن هذا التحوّل لم يأتِ من الخارج فقط، بل بفعل داخلي، من أفراد وجماعات سعوا لإثبات وجودهم في الفضاء الرقمي، ولو على حساب المساحات الأشد خصوصية في حياتهم.
الاقتصاد الرقمي: حين تُباع الذات قبل المنتج
تلعب المنصات الرقمية دورًا مركزيًا في إعادة تعريف الخصوصية، لكنها لا تفعل ذلك بوصفها أدوات تكنولوجية فقط، بل كمؤسسات تجارية تُشجّع على استثمار الذات كبضاعة. فكلما زادت مكاشفتك لحياتك، زاد جمهورك، وزادت فرصك في الربح أو الشهرة.
أصبح "تسليع الذات" أمرًا مألوفًا: المراهقة التي تنشر تفاصيل علاقتها العاطفية، الأم التي توثق كل لحظة مع أطفالها، الرجل الذي يحوّل يومياته إلى محتوى، وكل ذلك في مشهد عام يستبدل الكرامة بالوصول، والستر بالانتشار.
العائلة تحت المجهر: هل فقدنا خطوط الحماية؟
من أخطر مظاهر هذا التحول أن الأسرة، التي كانت ملاذًا خاصًا، باتت ساحة عرض شبه يومية. يتم تصوير الأطفال، وتوثيق انفعالاتهم، وفضح مشاعرهم، دون إدراك لحجم الأثر النفسي والاجتماعي لذلك. وتُنشر الخلافات الزوجية والتجارب الشخصية وكأنها مشاهد درامية، لا تداعيات لها.
بهذا الشكل، تُنتزع البراءة من العلاقة العائلية، وتُحوّل إلى مادة قابلة للتداول والتعليق والتقييم، في مجتمع لم يعد يفرّق بين العفوي والمصنوع، ولا بين ما يجب أن يُقال وما ينبغي أن يُصان.
هل مات الحياء أم صارت الحدود مُرنة؟
في الثقافة العربية، كان مفهوم "الستر" جزءًا من بنية القيم، لا بوصفه قيدًا أخلاقيًا، بل حماية للذات من الابتذال والتسليع. اليوم، يُنظر إلى الحياء بوصفه تخلّفًا، ويُقدّم الكشف الكامل للنفس على أنه "صدق" أو "شفافية".
لكن الواقع أن الكثير من هذه المكاشفات تُصاغ بدقة، وتُنتج لغرض معين، فهي لا تعكس الصدق بقدر ما تعكس الاستعراض المُقنَّع بالجرأة. لقد تحوّل المجتمع إلى مسرح بلا ستارة، والجمهور يُصفّق حتى لأكثر المشاهد إيلامًا، ما دامت مصوَّرة جيدًا.
هل يمكن استعادة الخصوصية؟
ليس الحل في الانسحاب الكامل من الفضاء الرقمي، بل في إعادة تعريف العلاقة معه، وإدراك أن الخصوصية ليست ضعفًا، بل قوة صامتة تحمي جوهر الإنسان من التهشيم.
استعادة الخصوصية تبدأ حين نعيد النظر في دوافعنا للنشر، ونسأل أنفسنا: من يخاطب هذا المحتوى؟ ولماذا؟ وهل أنا من يقوده... أم أنا مجرد تابع في مسار "ترند" لا يعترف بالحدود؟