عقدة التفوق الوهمي: هل نعيش في مجتمعات تتظاهر بالفهم أكثر مما تفهم؟

منصات التواصل، الندوات العامة، المقاهي الثقافية، والحسابات الشخصية... كلها مشاهد يومية يبدو فيها الجميع على دراية بكل شيء، من السياسة والاقتصاد إلى الفلسفة والتاريخ. لكن خلف هذا الانفجار في التعبير والرأي يكمن سؤال مزعج: هل نحن أمام مجتمعات تزداد وعيًا... أم مجتمعات تزداد ادّعاءً للوعي؟ وهل أصبح التفوق المعرفي واجهة اجتماعية لا تعكس مضمونًا حقيقيًا؟

من الفهم إلى التظاهر: حين تتحول الثقافة إلى زيّ استعراضي

تعيش مجتمعاتنا العربية في عصر التشويش المعرفي، حيث تكثر الشعارات وتقلّ الأسئلة، وتُستبدل الرحلة المعرفية بالتقاط العناوين السريعة. هذا الواقع غذّى ما يمكن تسميته بـ"عقدة التفوق الوهمي"، وهي حالة نفسية واجتماعية تجعل الأفراد يبالغون في إظهار وعيهم وتقديم آرائهم في كل شيء، ليس بدافع الفهم بل بدافع إثبات الذات أمام الآخرين.

نحن أمام جيل لا يُشجَّع على الشك والتساؤل، بل يُكافَأ على الجواب الجاهز، والحُكم السريع، والتصريح اللامع، حتى لو كان في غير موضعه. بذلك، تتحول المعرفة من أداة للتحرر إلى وسيلة للهيمنة الرمزية أو الاجتماعية، تُستخدم لإقصاء الآخر أو التشهير به بدل التحاور معه.

السوشيال ميديا: تضخيم الصوت وتضاؤل المعنى

أسهمت وسائل التواصل في خلق وهم واسع بالتمكّن والفهم، إذ أصبح بإمكان أي شخص أن ينشئ منصّة يعبّر فيها عن أفكاره دون مراجعة أو محاججة، مما خلق بيئة مشبعة بالثقة الزائدة والمنطق المنقوص. فكلما زادت الثقة في النفس، قلّ الاستعداد للمراجعة والتواضع المعرفي.

والأخطر أن هذه المنصات عززت نزعة المقارنة والاستعراض؛ فصار المطلوب ليس إيصال فكرة مفيدة بل الظهور كمثقف، كمفكر، كمحلل، ولو على حساب العمق أو الدقة. هكذا تنتشر مصطلحات بلا محتوى، ونظريات بلا سياق، وحوارات تنتهي قبل أن تبدأ.

مظاهر التفوق الوهمي: من قمع الحوار إلى احتقار الآخر

من أبرز علامات هذه العقدة:

  • احتقار المخالف: حيث يتحول الخلاف الفكري إلى تصنيف أخلاقي، فيُتهم الآخر بالجهل أو العمالة لمجرد أنه يخالف رأيًا شائعًا.
  • الإجابة عن كل شيء: غياب كلمة "لا أعلم" واستبدالها بثقة مفرطة حتى في أعقد القضايا.
  • التسطيح الفلسفي: استخدام أسماء المفكرين والمصطلحات الكبرى (نيتشه، ماركس، فرويد...) دون فهم عميق، فقط لإضفاء هالة ثقافية.
  • تقزيم الواقع المحلي باسم الفكر الكوني: حيث يُتهم أي من يناقش قضايا مجتمعية واقعية بأنه "سطحي"، بينما يُمدَح من يستخدم مصطلحات غامضة ولو كانت بلا صلة بالسياق.

الجذور النفسية والاجتماعية للعقدة

لا تنشأ هذه العقدة من فراغ، بل تُغذّيها عوامل مركبة:

  • الهشاشة التعليمية: غياب التفكير النقدي في أنظمة التعليم، مقابل الحفظ والتكرار.
  • الحرمان الرمزي: شعور الكثيرين بعدم التقدير الاجتماعي، ما يدفعهم لتعويضه عبر "التفوق الخطابي".
  • غياب الحاضنة الحوارية: إذ لا توجد بيئات تشجّع على الحوار المفتوح وتقبل الخطأ، بل ثقافة تُكافئ من يتكلم أكثر لا من يفهم أعمق.

نحو تواضع معرفي يعيد المعنى

إن تجاوز عقدة التفوق الوهمي لا يعني إنكار الطموح المعرفي، بل يعني تحريره من الاستعراض، والتسليم بأن الفهم الحقيقي يبدأ من الاعتراف بالجهل المؤقت، ومن الرغبة في التعلّم لا التسلّط.

إن المجتمعات لا ترتقي حين يعرف كل فرد كل شيء، بل حين يعرف كل فرد حدوده، ويطلب العلم تواضعًا لا تجمّلاً، ويشارك في الحوار بحثًا عن الحقيقة لا عن التصفيق.

+
أحدث أقدم

ويجيد بعد المقال


تنويه: هذا المقال (أو المحتوى) يقدم تحليلاً إعلامياً موضوعياً، ويخلو تماماً من أي تحريض أو دعوة للعنف، ويعكس رؤية نقدية متوازنة للأحداث، مع الالتزام التام بالأطر القانونية والمعايير المهنية.