
هل نحب الشخص حقًا؟ أم نحب انعكاسه في خيالنا؟ هل نشتاق إليه كما هو، أم نشتاق إلى الصورة التي رسمناها له في عقولنا، ثم صدّقناها؟
في العلاقات العاطفية، تتداخل الحقيقة بالخيال، ويصعب علينا التمييز بين من نحب، وما نحب فيه، وما نحب بسببه. فالإنسان لا يعيش في الواقع فقط، بل يعيش أيضًا في ذاكرته، في توقّعاته، في رموزه الداخلية.
وهنا تظهر الذاكرة العاطفية كعامل جوهري: تلك المساحة التي نحتفظ فيها بالشخص لا كما كان، بل كما أردناه أن يكون.
الذاكرة لا تحفظ الأشخاص… بل تحفظ مشاعرنا معهم
حين نتذكر مَن أحببناهم، لا نتذكرهم بتفاصيلهم الحقيقية، بل بما تركوه فينا من أثر. نُجمّل ما كان جميلاً، وننسى ما آلمنا، أو نُضخّمه. وهكذا نخلق نسخة روحية من الشخص، نعيش معها أطول مما عشنا مع الأصل.
بل إننا أحيانًا نظل نحب تلك النسخة، حتى بعدما يتغيّر الشخص، أو يغيب، أو يُظهر وجهًا آخر لم نعرفه. نتمسّك بالصورة، لا به.
هل يعني ذلك أن حبّنا كان وهماً؟
ليس بالضرورة. لكنّه كان تجربة داخلية أكثر منه علاقة واقعية.
فكثير من العلاقات تنشأ في الخيال وتُبنى من الرغبة، وتستمر رغم التناقضات، لأننا لا نحب الطرف الآخر بقدر ما نحب ما نمثّله له في أذهاننا.
فنحب لأنه أنقذنا مرة، أو فهمنا حين عجز الجميع، أو حضر حين كنا في الهشاشة... ومع الوقت، لا نعود نرى الشخص، بل نرى الدور الذي لعبه.
نحن نُحب لأننا نحتاج أن نؤمن بصورة ما
في اللاوعي، نحن نطلب من العلاقة أن تبرّر شيئًا فينا: أن تشفينا من ألم سابق، أن تداوي نقصًا، أن تعطينا معنى. وعندما نرى شخصًا قادرًا على لعب هذا الدور، نحبه… لكننا نحب الدور لا الشخص.
وحين يفشل في ذلك؟ ننهار، لأن الصورة قد تهشّمت.
الصورة العاطفية أقوى من الواقع أحيانًا
كم من علاقة انتهت، لكن الذاكرة ظلت تشتعل كلما ذُكر الاسم؟
وكم من أشخاص عادوا إلينا فلم نعد نحبهم، لأننا أدركنا أنهم ليسوا كما في أذهاننا؟
ذلك لأن الخيال يجمّل، والواقع يُفسد النقاء.
فنُدمن على الصورة لا على الأصل. نشتاق لما عشناه في داخلنا، لا لما عشناه مع الآخر. وتصبح العلاقة بذلك ذاكرة داخلية، لا حقيقة خارجية.
إذًا… هل نحب الشخص أم أنفسنا من خلاله؟
ربما كِلاهما.
لكن السؤال الحقيقي هو:
هل نمنح الآخر فرصة أن يكون كما هو؟ أم نُصرّ على أن يبقى كما تخيّلناه؟
لأن الحب الناضج يبدأ حين نُميّز بين الشخص الحقيقي، والصورة التي في عقولنا... ونقبل الأول كما هو، لا كما نُحب أن يكون.