
نُحب، فنعتقد أننا اخترنا. نشتاق، فنظن أن الشوق إلى شخص. نتعلق، فنظن أن في القلب مَن يستحق التعلّق. لكن… ماذا لو كان كل ذلك لا يعني الآخر بقدر ما يعني الوحدة التي نحاول الهروب منها؟
هل الحب دائمًا فعل شعور نحو الآخر؟ أم أنه في كثير من الأحيان ليس سوى محاولة للفرار من ذواتنا، من صمتنا الداخلي، من خوائنا الذي نخاف مواجهته؟
الحب الحقيقي يفترض أن يكون تَوجُّهًا حرًا نحو إنسان نراه كما هو. أما التعلق العاطفي في حالات كثيرة، فهو انجذاب صادر من حاجة لا واعية إلى ملء فراغ، لا إلى الآخر كشخص، بل إلى وجود يملأ صمت الغرفة.
الوحدة كقوة دافعة لا مرئية
الوحدة لا تُشبه العزلة. العزلة خيار، لكن الوحدة شعور خانق، حتى في الزحام. لذلك، حين يختنق الإنسان بالوحدة، يبدأ لا إراديًا في البحث عن أي رابط، أي تفاعل، أي صدى لصوته الداخلي. وهنا، قد يتوهّم أن أول من يصغي إليه أو يهتم به هو "الحب المنتظر".
لكن الحقيقة أن النفس لا تسعى دائمًا إلى الحب، بل إلى النجاة من السقوط في الفراغ.
هل نُحب من نحتاج، أم نحتاج من نُحب؟
في الحالة الناضجة، نُحب لأننا رأينا في الآخر روحًا حقيقية، وجدنا فيه عمقًا يلمسنا، جمالًا يدهشنا، حضورًا يملأ اللحظة.
أما في الحالات النفسية الأضعف، فنميل إلى من نحتاجه، ونُضفي عليه من الصفات ما يُشبع حاجاتنا. لا نراه كما هو، بل كما نريده أن يكون.
وحين يغيب؟ لا نشتاق إليه، بل نرتجف من عودة الوحدة.
التعلّق: قناع الحب الخائف
كثيرٌ مما نُسميه "حبًا" ليس إلا قلقًا متنكّرًا. قلق أن نُترك. أن لا نجد من يسمعنا. أن نظل وحدنا حين تهدأ الأصوات.
التعلق لا يرى الآخر كإنسان حر، بل كحبل نجاة. ولذلك، حين يهتز هذا الحبل، ننهار.
الحب الحقيقي يمنح حرية، أما التعلق فيخاف منها. لأن التعلق لا يريد شريكًا، بل يريد مُسعفًا دائمًا للحاجة.
لماذا لا نحتمل الوحدة أصلًا؟
لأننا لم نُدرَّب على أن نعيش ذواتنا. نشأنا في ثقافة تمجّد الارتباط وتعتبر "الوحيد" ناقصًا. نستهلك قصص الحب كما نستهلك الأوهام، فنتوهم أن الخلاص دائمًا في الآخر، لا في الداخل.
لكن الحقيقة أن الإنسان الذي لا يعرف أن يأنس بنفسه، لن يعرف كيف يُحب بصدق. لأنه كلما اقترب من الآخر، سيحمّله مسؤولية إخراجه من وحدته… وعندما يفشل الآخر، تبدأ الخيبة.
الخلاصة: هل نحب أم نهرب من الوحدة؟
السؤال لا يُجاب عليه دفعة واحدة.
لكنه يستحق أن يُطرح.
فكلما أحسسنا بأننا لا نستطيع العيش دون الآخر، فلنسأل أنفسنا بصدق:
"هل هو حقًا الآخر الذي أحتاجه؟ أم أن خوفي من البقاء مع نفسي هو ما يدفعني نحوه؟"
الحرية في الحب تبدأ حين لا نُحب للهروب، بل نُحب لأننا وجدنا في الآخر ما يُنير داخلنا، لا ما يستر خوفنا.