
هل نتحدث بلغتنا... أم أن لغتنا تتحدث بنا؟
حين نقول "أنا"، نبدأ بالكلمة قبل أن نبدأ بالفكرة.
نستخدم اللغة لنعبّر عن أنفسنا، لكن هل نستخدمها فعلًا؟
أم أن اللغة هي التي تصوغنا، وتقيّدنا، وتخبرنا كيف نكون؟
منذ اللحظة التي نُسمّى فيها، لا نعود أحرارًا في تشكيل ذواتنا.
فاللغة ليست فقط وسيلة للتعبير، بل إطارٌ نبني به وعي الذات ونرى به العالم.
الذات لا توجد خارج اللغة
في نظر الفيلسوف جاك دريدا، "لا شيء خارج النص".
الذات ليست كيانًا سابقًا للغة، بل تنشأ داخلها.
نحن لا نعرف أنفسنا إلا بما يمكن أن نقوله عنها.
وما لا يمكن قوله، لا يمكن أن يصبح جزءًا من "أنا".
اللغة كسجن ناعم
لكل كلمة نقولها ظلال ومعانٍ لا نملكها وحدنا.
حين أقول "أنا خائف" أو "أنا قوي"، فأنا أستعير مفردات عامة، تحمل في طياتها تاريخًا اجتماعيًا وثقافيًا.
اللغة تبدو كأنها مرآة للذات، لكنها في الحقيقة مرآة تحدد ما يمكن أن نراه من أنفسنا.
هي لا تعكسنا كما نحن، بل كما سُمِح لنا أن نكون.
صمت الذات: ما لا يُقال
كم من شعور نعرفه ولا نستطيع التعبير عنه؟
كم من فكرة نسجنها في دواخلنا لأنها "لا تُقال"؟
الصمت ليس دائمًا جهلًا، بل أحيانًا يكون حدود اللغة ذاتها.
وهكذا، هناك جزء من "أنا" يبقى دائمًا خارج اللغة، معلقًا في الصمت، عاجزًا عن التجسد.
اللغة كأداة للخلق... والتمويه
اللغة تمنح الذات إمكانات لا نهائية للخلق:
نكتب القصائد عن أنفسنا، نعيد سرد الماضي بصيغة أكثر جمالًا، نُخفي ما نكره ونُضخّم ما نحب.
لكن في هذا الخلق تكمن خدعة:
فما نقوله عن أنفسنا ليس دائمًا صادقًا، بل أحيانًا مموهًا، مزيفًا، مختارًا بعناية.
اللغة تعطيك ذاتًا، لكنها لا تضمن صدقها.
هل يمكن للذات أن توجد بلا كلمات؟
ماذا عن التأمل؟ الشعور؟ الحلم؟
هل نحتاج اللغة لنحس أننا موجودون؟
ربما تكون هناك طبقة أعمق من الذات، سابقة على اللغة، وأصدق منها.
لكنها لا تصل إلى الآخرين إلا حين تمر عبر الكلمات، فتفقد شيئًا من نقائها في الطريق.
سلسلة: أنا.. رحلة في العمق