
المؤسسات المالية، وعلى رأسها البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، لا تمنح الأموال بلا مقابل، بل تشترط تغييرات جذرية في سياسات الدولة، تمس جوهر القرار السيادي.
التمويل ليس مجانيًا: الأجندة المخفية خلف القروض والمنح
رغم الحديث عن "برامج دعم"، إلا أن المساعدات تُرفق دومًا بما يلي:
- تعديلات تشريعية لفتح الأسواق أمام الاستثمار الأجنبي.
- خفض الإنفاق على الخدمات العامة كالتعليم والصحة.
- تقليص الدور الاجتماعي للدولة لصالح منطق "السوق الحر".
- قبول رقابة دولية على موازنة الدولة وتوجهاتها.
وهكذا يتحوّل التمويل إلى أداة هندسة اقتصادية واجتماعية وفق مقاييس لا تنبع من حاجات المجتمع المحلي، بل من أجندات خارجية.
أمثلة واقعية: من إفريقيا إلى الشرق الأوسط
- تونس بعد الثورة: حصلت على قروض مشروطة من صندوق النقد شملت "إصلاحات اقتصادية"، أدت لاحقًا إلى فقدان الوظائف، وزيادة الأسعار، وتآكل الطبقة الوسطى.
- غانا: خضعت لبرامج تقشف واسعة مقابل "دعم فني"، فزادت البطالة، وهاجر عشرات الآلاف من الشباب.
- الأردن: تلقّى تمويلًا مشروطًا بتحرير الأسعار وتجميد التوظيف الحكومي، مما أثار احتجاجات شعبية متكررة.
في كل هذه الحالات، كانت الشروط حاضرة بقوة، بينما غاب مفهوم العدالة الاجتماعية.
المنظمات الدولية كواجهة ناعمة للضغط
كثير من المساعدات لا تأتي مباشرة من البنوك، بل من منظمات غير حكومية دولية أو ما يُعرف بـ"منظمات التنمية"، لكنها تعمل بتمويل مباشر من الدول الكبرى أو المؤسسات المالية، وبالتالي تنقل نفس الأجندة بلغة أكثر نعومة.
- مثلًا، منظمة "USAID" الأميركية، لا تقدّم دعمًا تنمويًا محايدًا، بل تفرض برامج تعليمية وإعلامية وثقافية تكرّس نمطًا محددًا من التفكير.
- مؤسسات مثل "Open Society" و"Ford Foundation" تروّج لقيم وأجندات سياسية مرفقة بالتمويل.
وهكذا يُصبح التمويل بوابة لاختراق القرار المحلي، وترويض السياسات باسم "الشراكة" و"الدعم المؤسسي".
التلاعب بالتصنيفات الدولية
حتى التصنيفات التي تُقيّم أداء الدول (مثل تقارير التنافسية، مؤشرات الشفافية، تصنيفات الائتمان…) تُستخدم كأدوات ضغط غير مباشرة، حيث:
- تُكافَأ الدول التي تطبّق "الإصلاحات" المرسومة لها.
- وتُعاقَب الدول التي تسلك طريقًا اقتصاديًا سياديًا مستقلًا.
بهذا، لا تحتاج القوى المالية العالمية إلى الاحتلال... يكفيها التحكم في درجات تقييمك لتوجّه مستقبل سياساتك.
خاتمة
التمويل الدولي، حين يأتي مشروطًا، لا يكون دعمًا بل قيدًا ناعمًا. إنه نوع جديد من الاستعمار الناعم، يُفرض بالوثائق لا بالمدافع، ويُمارس عبر البنوك والمنظمات لا عبر الجيوش.
والدولة التي لا تملك قرارها الاقتصادي، لا تملك قرارها السيادي.