الوساطة المتواطئة: حين تتحوّل الكارثة إلى فرصة لإعادة ترتيب النفوذ


الوسيط الذي يصنع الجرح: حين تتقن القوى الكبرى تمثيل دور المنقذ

في المشهد الدولي المعاصر، تتكرر مأساة غزة واليمن كلوحات مألوفة، تُعرض علينا باستمرار عبر شاشات الإعلام تحت مسميات «الوساطة» و«الدبلوماسية الإنسانية». لكن حين نغوص في عمق هذه الخطابات، نكتشف أن هذه الوساطة ليست سوى لعبة سياسية محكمة، تُديرها القوى الكبرى لصياغة واقع جديد يخدم مصالحها أكثر من معاناة الضحايا.

تحت هذا القناع الإنساني، تُمارس سياسة تضليل ممنهجة، تجعل من الكارثة وسيلة لإعادة رسم خريطة النفوذ الإقليمي والدولي، حيث يُعيد الوسطاء ترتيب أوراقهم على حساب الشعوب المحاصرة والمقهورة.

غزة واليمن ليستا استثناءً، بل نموذجًا صارخًا لكيفية تحويل المعاناة الإنسانية إلى سلعة سياسية تُسوّق عبر خطاب «الوساطة» الزائف، الذي يتقن تهميش جذور الصراع وتفكيك الأسباب الحقيقية ليظلّ العنف مستمرًا ومستدامًا.

الوساطة التي يقدمها الغرب ليست سوى إعادة إنتاج متجددة لآليات الهيمنة. فالضغوط السياسية والدبلوماسية تترافق مع تقديم مساعدات «إنسانية» جزئية، هدفها تثبيت أطر مصالح القوى الكبرى، وطمس فرص الحلول الجذرية التي تتحدى النظام العالمي القائم.

في اليمن، شهد العالم صمتًا مطبقًا عن سنوات من المجازر وتدمير البنى التحتية، ليعود لاحقًا بتدخلات شكلية «إنسانية» تكاد لا تلمس عمق الأزمة. هذا النفاق السياسي يكشف الوجه الحقيقي لـ«الوساطة»: تأجيل الأزمة عبر حزمة مساعدات مؤقتة، ترسيخ حالة الانقسام، وتغذية مصالح المحاور الكبرى.

أما في غزة، فوساطة تُمارس أمام الكاميرات، بينما الصواريخ تستمر بالانطلاق، والدماء تُسفك بلا توقف. لا تنتهي الوساطة عند حدود «وقف إطلاق النار»، بل تستمر في ضمان عدم تجاوز الخطوط الحمراء التي تحافظ على مصالح الكيان المحتل وتوازنات القوى العالمية.

في الخلاصة، الوساطة ليست خيارًا لحل الأزمات، بل جزء لا يتجزأ من المنظومة التي تُبقيها قائمة. هي وساطة متواطئة، تزيّن الأزمات الإنسانية لتصبح أداة سياسية تكرّس الاستعمار، وتُخفي القهر، وتحجب العدالة.

+
أحدث أقدم

ويجيد بعد المقال


تنويه: هذا المقال (أو المحتوى) يقدم تحليلاً إعلامياً موضوعياً، ويخلو تماماً من أي تحريض أو دعوة للعنف، ويعكس رؤية نقدية متوازنة للأحداث، مع الالتزام التام بالأطر القانونية والمعايير المهنية.