
كيف ترى الصين الغرب: تهديد أم شريك؟
منذ انفتاحها الاقتصادي في أواخر القرن العشرين، سعت الصين لتأسيس علاقة شراكة مع الغرب، مرتكزة على الطموحات الاقتصادية والتنموية المشتركة. إلا أن التجربة كشفت أن الثقة كانت هشة. تصاعدت العقوبات، وحصار التكنولوجيا، وتضييق الفضاء السياسي. لم تعد بكين ترى الغرب كحليف أو شريك، بل كمنافس وجودي يحاول حصرها في نطاق القوة العظمى التقليدية، ومهمته تقويض صعودها.
هذا التحوّل في الإدراك هو أساس القناعة الصينية بأن "الحرب" قائمة الآن في مجالات متعددة: من الحرب الاقتصادية وفرض التعريفات، إلى الحرب التكنولوجية عبر حصار ابتكاراتها، ووصولًا إلى الحرب الإعلامية التي تحاول تشويه صورتها دوليًا.
مفهوم "الحرب الباردة" عند بكين: نسخة محدثة بلا جدران
الحرب الباردة التي تعيشها الصين ليست حربًا عسكرية بالمعنى التقليدي، ولا تعتمد على تقسيم العالم بسياج من جدران ملموسة، بل هي حرب شاملة أكثر تعقيدًا، تُخاض على مستويات اقتصادية، تكنولوجية، ثقافية، ودبلوماسية. هي "حرب باردة" بلا حواجز حديدية، لكنها أكثر شمولية في استهداف القيم والنظام الذي تسعى الصين إلى بنائه.
السيطرة على التكنولوجيا والتحكم في شبكات المعلومات والبنى التحتية الرقمية باتت جزءًا لا يتجزأ من هذه الحرب. الصين ترى أن الحفاظ على سيادتها الرقمية والاقتصادية هو حجر الزاوية في مقاومتها لهذا الصراع الجديد.
سلوك الصين العملي: الاكتفاء، التكنولوجيا، والبنية التحتية
في مواجهة هذا التصعيد، اعتمدت الصين استراتيجية استباقية تقوم على تقليل الاعتماد على الغرب، من خلال تعزيز الاكتفاء الذاتي التكنولوجي والاقتصادي. برامج مثل "صنع في الصين 2025" تُعدّ محاولة واضحة لتحقيق الاكتفاء الذاتي في المجالات الحساسة.
على المستوى الجيوسياسي، تسعى بكين إلى توسيع نفوذها عبر مبادرات ضخمة مثل "الحزام والطريق"، التي تهدف إلى إنشاء شبكة اقتصادية وبنية تحتية عالمية متكاملة، لا تُبقي للصين فقط دورًا مركزيا في الاقتصاد العالمي، بل تمنحها أيضا نفوذا جيوسياسيًا واسع النطاق.
هذه الخطوات تترجم قناعة راسخة بأن الغرب سيستمر في فرض قيوده، لذا لا بد من بناء منظومة موازية.
ماذا يريد الغرب؟ ولماذا لا يفهم إشارات بكين؟
الغرب، خصوصًا الولايات المتحدة وأوروبا، يبدو محاصرًا في نمط فكري ومؤسساتي لا يستوعب تحول الصين الحقيقي. مازال يُنظر للصين عبر عدسة المنافسة الاقتصادية أو التحدي العسكري فقط، بينما تتجاهل الطبقات السياسية والأمنية الغربية البُعد الأيديولوجي والثقافي العميق للصراع.
الاستمرار في فرض عقوبات وتجريم التطور التكنولوجي الصيني، دون فتح حوار استراتيجي واضح، يعمّق التوتر ويجعل الحرب الباردة الشاملة مآلًا محتومًا.
هل نحن في بداية صدام قيمي عالمي طويل الأمد؟
المعضلة الأساسية ليست فقط في السياسة أو الاقتصاد، بل في الاختلاف الجذري في المفاهيم والقيم التي يحملها كل قطب. الصين تسعى إلى نظام عالمي متعدد الأقطاب يحترم سيادة الدول والتنمية ذات السيادة، بينما الغرب يتمسك بنموذج أحادي القطب قائم على معايير "الليبرالية الغربية" والحريات الفردية بصيغتها الراهنة.
هذا الصدام القيمي لن يحسم بسرعة، وسيُجعل من الصراعات الاقتصادية والتكنولوجية مجرد مسرحيات لاحتواء الصراع الأيديولوجي الأعمق. وهذا ما يجعل من "الحرب الباردة الشاملة" حقيقة لا مهرب منها في المستقبل المنظور.
خاتمة
تواجه الصين والعالم مرحلة من الصراع الاستراتيجي المركب، حيث تتشابك المصالح الاقتصادية مع القيم والثقافات، في سياق دولي متغير. القطب المتصدع ليس فقط بين دولتين، بل بين رؤيتين مختلفتين لمستقبل النظام الدولي. إدراك هذا الأمر هو الأساس لفهم لماذا ترى الصين أن الحرب الباردة الشاملة قد بدأت بالفعل، وكيف أن ملامح هذا الصراع ستحدد شكل العالم لعقود قادمة.