الوصاية لا تزال تعمل: لماذا تُمنح إسرائيل الضوء الأخضر رغم المجازر؟

في عالمٍ يُفترض أنه محكوم بالقانون الدولي، ومواثيق حقوق الإنسان، ومجالس تُعنى بالسلم والأمن، تبدو المجازر المتكررة في غزة وكأنها تُنفّذ بضوء أخضر لا لبس فيه، ضوء يصدر عن مراكز القرار الدولية نفسها التي تدّعي الحياد، وتوزّع صكوك الشرعية والعدالة في العالم. هنا تتجلى "الوصاية"، لا بوصفها مفهومًا استعمارياً من الماضي، بل كآلية ما تزال تعمل بكامل فعاليتها في الحاضر، وتكشّفت بوضوح سافر في الموقف الدولي من حرب الإبادة في غزة.

بين القاتل والمُراقب... علاقات حماية لا محاسبة

المفارقة ليست فقط في صمت بعض الدول الكبرى، بل في تحركاتها النشطة لحماية إسرائيل دبلوماسيًا وقانونيًا، وعرقلة أي مسعى للمحاسبة، سواء في مجلس الأمن أو محكمة العدل الدولية. فكلما اقتربت العدالة من أبواب إسرائيل، تحرّكت آليات "الفيتو" أو ضغوط الابتزاز السياسي لمنع الوصول إليها. وهذا يؤكد أن إسرائيل لا تُعامل كدولة "عادية"، بل كوكيل محمي ضمن منظومة مصالح أعقد من مجرد دعم حليف في الشرق الأوسط.

وظيفة إسرائيل: رأس جسر دائم في المنطقة

حين نُمعن في خلفية هذا الدعم، ندرك أن وجود إسرائيل ليس فقط لأمن اليهود أو تعويضات ما بعد الهولوكوست، بل لأداء وظيفة استراتيجية: تفكيك البنية السياسية للمنطقة، إبقاء الشعوب تحت التهديد، وضمان بقاء موازين القوى مائلة لصالح الغرب. من هنا، فإن أي "محاسبة" لها تعني المساس مباشرة بالمنظومة التي صممت هذا الدور ورعته لعقود.

الأمم المتحدة كمرآة للوصاية لا كسلطة مستقلة

لطالما اعتُبرت الأمم المتحدة مظلة عالمية محايدة، لكن في حالات القصف المستمر لغزة، تحوّلت هذه المؤسسة إلى مرآة واضحة لانقسام العالم بين واقعين: واقع من يمتلك القرار وواقع من يُطلب منه الانضباط فقط. فالبيانات الخجولة، أو حتى التقارير التي توثق الانتهاكات، لم تمنع آلة القتل، لأن من يُفترض أن يوقفها هو ذاته من يسلّحها ويموّلها دبلوماسيًا.

جنوب أفريقيا نموذجًا مضادًا للوصاية

ظهور جنوب أفريقيا كدولة تتحدى النظام الدولي من داخل قواعده، وتتقدّم بدعوى ضد إسرائيل في محكمة العدل، يفتح نافذة صغيرة على إمكانية كسر هذه الوصاية. لكنها نافذة فردية وسط جدران سميكة، تُذكّرنا أن النظام العالمي ليس ساحة مفتوحة، بل طبقات من القوة والهيمنة، حيث لا يكفي أن تكون على حق، بل يجب أن تكون خارج الوصاية لتُسمَع كلمتك.

العرب بين القيد والخذلان

موقف الأنظمة العربية من الحرب على غزة كان مثالًا إضافيًا على استمرار الوصاية. لم تخرج أي دولة عربية كبرى بموقف يعادل مستوى الحدث، بل انقسمت بين صامت، ومتواطئ، ومتباهٍ بدوره "الوسيط". والوساطة هنا ليست إلا تعبيرًا دبلوماسيًا عن العجز والالتحاق، لا عن الفعل. وما يُمنع من اتخاذه عربيًا لا يُمنع بفعل عجز، بل بفعل تبعية استراتيجية تُدار من خارج المنطقة.

حين تتحول المجازر إلى قرار سياسي لا حدث عارض

ما يجري في غزة ليس خطأً في تقدير، ولا تجاوزًا عسكريًا، بل قرار سياسي يُدار ضمن توافق دولي غير معلن. وهذا ما يفسّر كيف تستمر الحرب رغم شراستها، دون أي محاسبة جدية. فالمسألة لم تعد في عدد الضحايا أو فظاعة المشاهد، بل في موقع الحدث داخل خرائط المصالح الدولية. ومن الواضح أن هذه الخريطة، حتى الآن، لا تضع حياة الفلسطينيين ضمن خانة "الأولويات".

الخاتمة: لا عدالة بدون إسقاط نظام الوصاية

إن كل محاولة لفهم الواقع السياسي الحالي دون وضع "الوصاية" كعنصر أساسي فيه، ستؤدي إلى تحليلات ناقصة. فالعالم لم يدخل مرحلة ما بعد الاستعمار بعد، بل أعاد تشكيل الوصاية بأدوات ناعمة، عبر مؤسسات وشرعيات مصمّمة لحماية من يملكون القرار. وما لم يُكسر هذا النسق من الداخل، ستبقى إسرائيل فوق المحاسبة، والضحايا تحت الركام، والعالم يحدّق في شاشة العدالة... وهي مغلقة.

+
أحدث أقدم

ويجيد بعد المقال


تنويه: هذا المقال (أو المحتوى) يقدم تحليلاً إعلامياً موضوعياً، ويخلو تماماً من أي تحريض أو دعوة للعنف، ويعكس رؤية نقدية متوازنة للأحداث، مع الالتزام التام بالأطر القانونية والمعايير المهنية.

✉️ 📊 📄 📁 💡