
لكن هل الحرية التي نتمناها، تلك التي نُعلّق عليها آمال السعادة والطمأنينة، هي بالفعل منقذنا؟
أم أنها تتحول في كثير من الأحيان إلى عبء ثقيل يرهق الروح، ويزيدها عزلة، ويجعلها تائهة في دوائر من الوحدة والاغتراب؟
حرية أم عزلة؟
حين نتحرر من القيود الاجتماعية، نكتشف فجأة أننا بلا شبكة أمان، بلا درع يحمي ضعفنا.
الاستقلال الذي يبدو تحريرًا، قد يكون في الواقع سجنًا.
في ظل الضغط الكبير على «الاعتماد على الذات»، يُصبح الإنسان مسؤولاً ليس فقط عن أفعاله، بل عن شعوره ونجاحه وحياته كاملة.
وهذا قدر ثقيل، لا يطاق دومًا.
الفردانية كواحدة من أكبر مفارقات العصر
الفردانية التي طالما رُوج لها كأحد إنجازات الحداثة، قد تحوّلت إلى سبب في الانعزال النفسي والاجتماعي.
حين يُطلب منك أن تكون قويًا، مكتفيًا، لا تلجأ لأحد، تتحول الارتباطات الإنسانية إلى ضعف يُخشى الاعتراف به.
وهكذا، ينهار دعم الشبكات الاجتماعية التي كانت ذات يوم تعطي معنى للوجود.
الاستقلال... مسؤولية وحيدة
أن تكون مستقلًا يعني أن تُواجه كل أزمة بمفردك، أن تحل كل مشكلة دون مساعدة، وأن تتحمّل كل أعباء الحياة النفسية والاجتماعية.
في الحقيقة، ليست الحرية في الانفصال عن الآخر، بل في إيجاد التوازن بين الاعتماد والاعتماد عليه.
والمشكلة أن الثقافة السائدة تُشجع على الانفصال، وتتجاهل الفطرة البشرية التي تحتاج إلى القرب والدعم.
هل نستطيع حمل كل هذه الحرية؟
الإنسان كائن اجتماعي بطبعه، ويحتاج إلى علاقات تبنيه، تدعمه، وتُخفّف عنه.
لكن مع تكريس ثقافة الاستقلال، قد يصبح الاعتماد على الآخر ملطخًا بالعار، والاستعانة به مؤشر ضعف.
وهذا القيد غير المرئي يزرع بذور الوحدة، ويُعمّق من اغتراب الذات.
الحرية الحقيقية: ليست في الانفصال بل في التشارك
الاستقلالية المفرطة هي وهم،
والحرية الحقيقية تكمن في القدرة على التشارك، على طلب الدعم، على بناء علاقات متوازنة.
حين نُعيد تعريف الحرية كحالة من الانفتاح والصدق والتبادل، نحرر أنفسنا من أعباء وهم الاستقلال.
خاتمة
في زمن يُمجد فيه الفرد المستقل، نحتاج إلى تذكير بسيط:
أن الاستقلال ليس هدفًا بلا سياق، بل وسيلة لبناء حياة إنسانية متكاملة.
وأن الحمل الثقيل للحرية بلا شبكة دعم، ليس حرية بل عبء لا يُطاق.
لذلك، يجب أن نعيد التفكير في معنى الاستقلال، وأن نُعيد للروابط الإنسانية مكانتها كركيزة حقيقية للحياة الحرة.