
لكن شيئًا ما لم يسر كما خُطّط له. فالمشروع الغربي لدفع الهند إلى صدارة آسيا تبخّر بهدوء، واختفى من العناوين، وتوقفت الرواية. فما الذي حدث؟
الغرب يبحث عن بديل للصين
خلف الكواليس، كان الغرب يدرك منذ سنوات أن الصين لا يمكن احتواؤها عسكريًا فقط، بل يجب كسر هيمنتها عبر خلق نموذج آسيوي بديل يربك مشروعها.
الهند بدت مناسبة:
- تتحدث الإنجليزية،
- ذات نظام ديمقراطي اسمي،
- ولها نفوذ ثقافي ناعم يمتد من بوليوود إلى وادي السيليكون.
بدأت شركات غربية تنقل عملياتها من الصين إلى الهند (تحت عنوان "China+1"). وصعد الخطاب الإعلامي يمجّد "دلهي كالمركز الجديد"، ويصف "مودي" بأنه مصلح قوي وصديق للغرب.
لكن النموذج الهندي لم يتحرّك
رغم كل الآمال، لم تتحوّل الهند إلى البديل المطلوب.
والسبب؟ أن جذور التخلّف ليست تقنية ولا اقتصادية فقط، بل هيكلية وثقافية وسياسية.
- البيروقراطية الهندية بقيت غارقة في الفساد والتعقيد.
- الاستثمار الأجنبي اصطدم بتضخم القوانين، وضعف البنية التحتية، وصراعات داخلية.
- الطبقية والطائفية منعت تكوين طبقة وسطى واسعة قادرة على قيادة التحديث.
وبينما تباهى الغرب بالأرقام الاسمية للنمو، ظلّ الواقع في الريف الهندي، وفي الأحياء الفقيرة الحضرية، متخلفًا، هشًّا، وغير قابل للاعتماد عليه.
صعود الخطاب القومي كأداة تفكك
منذ صعود ناريندرا مودي، تغيّر وجه الهند سياسيًا.
القومية الهندوسية طغت على المشهد، وأصبحت السياسات تُدار بعقلية أيديولوجية أكثر من كونها تنموية.
- اضطهاد المسلمين وتضييق الحريات الإعلامية.
- تشريعات تمييزية تتعارض مع القيم الليبرالية التي راهن عليها الغرب.
- خطاب العداء للآخر، بدل الانفتاح والتحديث.
الغرب الذي روّج للهند بوصفها "الديمقراطية الكبرى" بدأ يصطدم بمشهد مغاير تمامًا لما سوّقه، وبدأ التراجع الإعلامي التدريجي.
السردية تتغيّر… بصمت
ما لم يُقال بوضوح في الصحافة الغربية هو أن المراهنة على الهند فشلت مؤقتًا.
ولأن الاعتراف بالفشل ليس جزءًا من الرواية الغربية المعتادة، اختارت المؤسسات الإعلامية الكبرى الصمت بدل التصحيح.
- لا تقارير تحقيقية كبرى عن إخفاق مشروع "الهند الجديدة".
- لا اعتراف بأن الهند لم تعد محور المواجهة مع الصين.
- بل تمّ استبدال التركيز الإعلامي نحو قضايا مثل أوكرانيا، إيران، تايوان، الذكاء الاصطناعي…
إنه انسحاب ناعم من السردية. فالهند لم تسقط، لكنها لم تنجح بما يكفي لتبقى بطل القصة.
من المستفيد من هذا التراجع؟
الصين، دون شك، هي المستفيد الأول.
لكن أيضًا دولًا مثل فيتنام، إندونيسيا، وماليزيا بدأت تستقطب الاستثمارات التي كانت موجّهة للهند، بصمت وفعالية.
أما الغرب، فقد عاد إلى تعزيز استثماراته داخل حدوده أو في حلفائه التقليديين، وأصبح أكثر حذرًا في الرهان على "مشاريع كبرى".
خلاصة تحليلية: حين لا تكفي النيّة ولا الجغرافيا
إنّ سقوط الرهان الغربي على الهند لم يكن وليد قرار واحد، بل نتيجة تراكمات لم تُعالج:
- نظام لا يحتمل الضغوط التنموية الكبرى،
- خطاب سياسي داخلي يعاكس الحداثة،
- وتحالف غربي عالق بين الواقعية والمثالية.
إنّ المسألة ليست في أن الهند لا تصلح، بل في أن المشروع أُطلق بخفّة، وتُرك ليتآكل بهدوء.
وقد آن أوان التفكير في ما إذا كانت القوى الكبرى قادرة فعلاً على "هندسة بدائل عالمية"، أم أنها تعيش أوهامًا إعلامية مؤقتة تُبدَّدها حقائق التاريخ.