بنجلاديش: حين تتحوّل المعجزة التنموية إلى سردية للتصدير

في السنوات الأخيرة، تصدّرت بنجلاديش عناوين وسائل الإعلام العالمية، ليس كبلد يعاني من الفقر والكوارث كما اعتادت العدسات أن تُظهِره، بل كنموذج مزدهر يُقدّم درسًا في التنمية المستدامة، ويُشاد به كمثال يُحتذى بين دول الجنوب العالمي. غير أن هذا السرد "المعجزي" يخفي خلفه كثيرًا من التناقضات البنيوية، التي تُحيل "القصة التنموية" إلى مجرّد سردية استراتيجية مصمّمة للاستهلاك الدولي، أكثر منها قصة نجاح حقيقية.

فجأة على المسرح: كيف تم تلميع بنجلاديش؟

منذ عام 2020، بدأت تقارير غربية تصف بنجلاديش بأنها تتفوّق على جيرانها (بل حتى على الهند في بعض المؤشرات الاقتصادية)، مع التركيز على معدلات نمو الناتج المحلي، الصادرات، وتمكين المرأة. طغت مصطلحات مثل: "النموذج البنجلاديشي"، "قوة النسيج العالمي"، "معجزة التنمية"، في تقارير البنك الدولي وصحف مثل The Economist وNew York Times.

لكن التوقيت لم يكن بريئًا. إذ جاء هذا الترويج وسط تصاعد التنافس الجيوسياسي في آسيا، والسعي الغربي الحثيث لتوسيع نفوذه الاقتصادي والسياسي في منطقة جنوب آسيا بعد انكفاء نفوذه في أفغانستان وتصاعد نفوذ الصين.

فهل كانت بنجلاديش فعلاً قصة نجاح داخلي... أم مشروعًا خارجيًا موجهًا بعناية؟

الاقتصاد البنجلاديشي: تنمية على أكتاف الاستغلال

يعتمد الاقتصاد البنجلاديشي اعتمادًا مفرطًا على قطاع الملابس الجاهزة، الذي يُمثّل أكثر من 80٪ من صادراتها. هذا القطاع، الذي يعمل فيه ملايين النساء، يجسّد مفارقة "التنمية الرخيصة": أجور متدنية، بيئة عمل خطرة، وغياب شبه تام للحقوق النقابية. مئات الحوادث وقعت في المصانع، أبرزها كارثة رانا بلازا عام 2013 التي راح ضحيتها أكثر من ألف عامل، ثم سُرعان ما طُويت الصفحة إعلاميًا.

ورغم التحسينات الشكلية، لا تزال العمالة البنجلاديشية تُستغلّ بأبشع الصور لتقديم "تنمية تنافسية"، تجعل من البلاد وجهة للشركات الغربية الباحثة عن الإنتاج الرخيص. وهذا يطرح سؤالًا جوهريًا: هل تُقاس التنمية بارتفاع الناتج... أم بشروط حياة الإنسان؟

الوجه السياسي: تنمية بلا ديمقراطية

من المفارقات التي تتجاهلها الرواية الغربية عن بنجلاديش، أن هذا "النموذج التنموي" يتم تحت حكم سلطوي مُحكم. تقود رئيسة الوزراء شيخ حسينة البلاد منذ أكثر من 15 عامًا، في ظل تضييق ممنهج على المعارضة، تقييد حرية الصحافة، واستخدام القضاء والأمن في تصفية الخصوم السياسيين.

ففي انتخابات 2018، اتُّهم النظام بتزوير واسع، وشهدت البلاد قمعًا غير مسبوق للمعارضين. ومع ذلك، واصلت المنظمات الدولية الثناء على الأداء الاقتصادي دون أن تشير إلى هشاشة البنية السياسية والحقوقية. وكأنّ التنمية أصبحت تُقاس بـ"أرقام قابلة للتسويق" فقط، لا بالحرية أو العدالة.

هل نحن أمام نموذج... أم واجهة؟

ما تُقدّمه بنجلاديش اليوم لا يرقى إلى "نموذج تنموي"، بل إلى نموذج قابل للتوظيف السياسي الخارجي. الغرب، الباحث عن بدائل للنفوذ الصيني، وجد في بنجلاديش موقعًا جغرافيًا مهمًا، ويدًا عاملة رخيصة، وحكومة مطواعة يمكن دعمها طالما أنها تُنتج وتستقر.

وبينما يتصاعد الحديث عن "التحوّل الرقمي" و"صادرات التكنولوجيا"، تبقى البنية التحتية للبلاد هشة، تتعرّض سنويًا لفيضانات وكوارث طبيعية، ويعيش جزء كبير من السكان تحت خط الفقر أو في الهشاشة الاقتصادية.

فروق بين الإعلام والواقع

أولًا: النمو الاقتصادي
يُروَّج في الإعلام العالمي أن بنجلاديش تشهد "قفزات تنموية غير مسبوقة"، وأن اقتصادها من بين الأسرع نموًا في العالم. لكن الحقيقة أن هذا النمو هش للغاية، لأنه يعتمد بشكل شبه حصري على قطاع واحد فقط، هو صناعة الملابس الجاهزة، المبني بدوره على استغلال العمالة الرخيصة في ظروف غير إنسانية.

ثانيًا: حقوق الإنسان
لا تظهر قضايا حقوق الإنسان في التغطية الإعلامية الدولية لبنجلاديش، وكأنها غير موجودة. في الواقع، تشهد البلاد انتهاكات ممنهجة تشمل الاعتقال السياسي، قمع حرية الصحافة، وملاحقة المعارضين تحت غطاء قانوني وأمني خانق.

ثالثًا: دور المرأة
يتكرر الحديث عن "تمكين المرأة" في بنجلاديش، خصوصًا من خلال توظيفها في مصانع الملابس. لكن واقع الحال أن النساء العاملات يُواجهن بيئة عمل قاسية، أجورًا زهيدة، وغيابًا لأي حماية قانونية حقيقية، مما يجعل "التمكين" مجرد شعار تجميلي.

رابعًا: السياسة الداخلية
تُقدَّم بنجلاديش في بعض المحافل الدولية كدولة ديمقراطية مستقرة. لكن الحقيقة أن النظام السياسي شبه استبدادي، حيث تُنظم انتخابات شكلية تُهيمن عليها رئيسة الوزراء الحالية، وسط تكميم للمعارضة واستخدام القضاء والأمن كأدوات للهيمنة.

خامسًا: المديونية والاعتماد على الخارج
نادراً ما يُسلَّط الضوء على مدى اعتماد بنجلاديش على القروض والمساعدات الغربية والدعم الفني الدولي. لكن هذا الاعتماد البنيوي يجعل اقتصاد البلاد عرضة للابتزاز، ويُهدد أي إمكانية لتحقيق سيادة اقتصادية حقيقية في المستقبل.

الختام: عندما تصبح التنمية منتجًا إعلاميًا

ليست بنجلاديش أول دولة تُصدّر كـ"نموذج معجزي"، ولن تكون الأخيرة. لكن ما يلفت الانتباه هو أنّ المعيار الغربي لقياس النجاح التنموي لم يعُد يشمل الحريات أو العدالة أو حتى الاستقلال الاقتصادي، بل يكتفي بإنتاجية منخفضة التكاليف، واستقرار سياسي يُسهّل السيطرة.

فإذا كانت "المعجزة" تُبنى على استغلال العمال، وتُدار بنظام سلطوي، وتُسوّق دوليًا لأغراض جيوسياسية... فهل هي معجزة فعلًا؟ أم مجرد واجهة أخرى في لعبة النفوذ الدولي؟

+
أحدث أقدم

ويجيد بعد المقال


تنويه: هذا المقال (أو المحتوى) يقدم تحليلاً إعلامياً موضوعياً، ويخلو تماماً من أي تحريض أو دعوة للعنف، ويعكس رؤية نقدية متوازنة للأحداث، مع الالتزام التام بالأطر القانونية والمعايير المهنية.