ماليزيا: بين مؤشرات النمو وصرخات الشارع: ماذا يحدث؟

في الوقت الذي تُعلن فيه الحكومة عن نجاحات اقتصادية مشهودة، تشهد شوارع كوالالمبور مظاهرات متزايدة تطالب برحيل الحكومة. هذه المفارقة الحادة بين الصورة الرسمية والوضع الشعبي تستدعي تحليلًا دقيقًا لفهم ما يحدث فعلًا في ماليزيا، ولماذا تبدو البلاد على مفترق طرق بين الطموح الاقتصادي والانفجار الاجتماعي.

مؤشرات نمو... لكنها غير موزعة

شهد الاقتصاد الماليزي نموًا بنسبة 5.1٪ في عام 2024، مدفوعًا بارتفاع الاستثمارات المحلية وانتعاش سوق رأس المال إلى أكثر من 4.2 تريليون رينغيت. ورغم التوقعات المتفائلة، قامت الحكومة بتعديل تقديرات 2025 إلى 4–4.8٪، بسبب التوترات العالمية والتهديد بفرض رسوم جمركية أميركية على صادرات رئيسية كالإلكترونيات.

أعلنت حكومة أنور عن حزمة إصلاحات مالية طموحة تشمل رفع الدعم عن الوقود وتطبيق ضرائب جديدة، مع زيادة الحد الأدنى للأجور وتقديم مساعدات مباشرة للمواطنين. على الورق، تبدو هذه السياسات متوازنة وموجهة لتحقيق الاستدامة المالية.

أزمة توزيع الثروة

رغم هذه المؤشرات، يعيش المواطن الماليزي ضغطًا يوميًا نتيجة تضخم أسعار الغذاء والمعيشة. فقد ارتفعت أسعار المواد الأساسية بنسبة 17.5٪ منذ 2020، بينما لم تزد الأجور إلا بنسبة 7.9٪. وتعكس هذه الفجوة خللاً هيكليًا في توزيع الدخل: إذ لا تتجاوز حصة العمال من الناتج المحلي 33٪، في حين تستحوذ الشركات الكبرى والمستثمرون على الحصة الأكبر من النمو.

الإصلاحات المعلنة، رغم أهميتها، لم تمس جوهر الخلل في التوزيع الطبقي، بل جاءت في نظر كثيرين متأخرة ومحدودة التأثير. ولذلك، لم تكن كافية لتهدئة السخط الشعبي، بل زادته اشتعالًا.

الشارع يغلي: مظاهرات تطالب برحيل الحكومة

في يوليو 2025، خرج أكثر من 18 ألف مواطن في مظاهرات ضخمة ضد حكومة أنور، رافعين شعار "Turun Anwar" (أنور إلى التنحي)، في رسالة مباشرة برفض السياسات الاقتصادية الراهنة. وقد دعم المظاهرات رئيس الوزراء الأسبق مهاتير محمد، الذي وجّه انتقادات لاذعة لحكومة أنور، متهمًا إياها بالفشل في مكافحة الفساد وتعطيل المسار الإصلاحي الحقيقي.

الاحتجاجات لم تكن مجرد رد فعل عاطفي على الغلاء، بل تعبير عن شعور أوسع بتآكل الثقة في أن تكون الحكومة الحالية قادرة على تمثيل مصالح الطبقة المتوسطة والفقيرة، التي باتت ترى في كل إعلان اقتصادي رسمي غطاءً لتقشف غير معلن.

مفترق طرق: ما الخيار القادم؟

ماليزيا الآن في لحظة حاسمة. فإما أن تستمر الحكومة في إدارة الأزمة بتدابير تكنوقراطية تخاطب المؤسسات الدولية أكثر مما تخاطب مواطنيها، أو أن تعيد ترتيب أولوياتها جذريًا، لتكون العدالة الاجتماعية قلب السياسة الاقتصادية، لا هامشًا لها.

ما يحدث في ماليزيا اليوم ليس مجرد أزمة معيشية، بل اختبار حقيقي لمعادلة الحكم في زمن ما بعد النمو السريع: هل يمكن لدولة أن تنجح اقتصاديًا بينما يفشل مواطنوها في تأمين حاجاتهم؟

الجواب لم يعد اقتصاديًا فقط، بل سياسي واجتماعي في جوهره.

بين الصورة الإعلامية والواقع الاجتماعي

تروّج وسائل الإعلام الماليزية الرسمية – ومعها كثير من التقارير الغربية – لرواية "التحول الاقتصادي" ونجاح الحكومة في جذب الاستثمارات وتحقيق الاستقرار المالي. إلا أن هذا الخطاب الإعلامي يصطدم بواقع لا تملكه المؤسسات المالية: واقع البطالة المقنّعة، والديون الأسرية المرتفعة، وفقدان الثقة في النظام السياسي نفسه.

أظهرت الدراسات الأخيرة أن أكثر من 48٪ من الماليزيين يرون أن وضعهم الاقتصادي ازداد سوءًا خلال العامين الأخيرين، رغم التقارير المتفائلة. ويعني ذلك أن الفجوة تتسع بين ما يُعلن رسميًا وبين ما يُعاش يوميًا.

ختامًا: لا تنمية بلا عدالة

الاقتصاد ليس أرقامًا فقط، بل إحساس بشروط العيش الكريم. وإذا كانت ماليزيا تريد أن تتحول إلى "نمر آسيوي جديد" فعليها أن تعالج التشققات العميقة في بنيتها الاجتماعية، لا أن تكتفي برصف الطرق وجذب الشركات.

إن لحظة الحقيقة تقترب: إمّا أن يُعاد بناء الثقة عبر مشروع اقتصادي يُشرك الناس فعلًا في عوائده، أو أن تستمر المظاهر الجذابة في إخفاء هشاشة داخلية قد لا تصمد طويلًا أمام الغضب الشعبي.

+
أحدث أقدم

ويجيد بعد المقال


تنويه: هذا المقال (أو المحتوى) يقدم تحليلاً إعلامياً موضوعياً، ويخلو تماماً من أي تحريض أو دعوة للعنف، ويعكس رؤية نقدية متوازنة للأحداث، مع الالتزام التام بالأطر القانونية والمعايير المهنية.