الصين في قلب الشرق الأوسط: تفكيك التحالفات وإعادة رسم خرائط النفوذ

مقدمة: الصعود الحذر للصين في الميدان العربي

بينما تزداد التوترات الإقليمية في الشرق الأوسط، تبرز الصين كلاعب دولي يُعيد رسم تحالفاته بعناية، ويتقدّم كوسيط غير تقليدي في صراعاتٍ طالما احتكرها النفوذ الغربي. لكن ما يبدو كتحرك دبلوماسي هادئ يخفي خلفه حسابات استراتيجية أعمق تتجاوز التجارة والطاقة، لتطال موازين القوى وتنافس النفوذ الأميركي في المنطقة.

وساطة أم تموضع؟ حدود الدور الصيني في الإقليم

خلال السنوات الأخيرة، رعت بكين اتفاقًا تاريخيًا بين السعودية وإيران، في لحظةٍ أظهرت فيها الصين قدرتها على لعب دور الوسيط غير الاستفزازي، في مقابل الغرب المتورط أخلاقيًا واستعماريًا. لكن هذه الوساطة لم تكن هدفًا بذاتها، بل وسيلة اختبار لمدى تقبّل الدول العربية للنفوذ الصيني خارج الاقتصاد.

وهنا تظهر مفارقة: كثير من الحكومات العربية ترحب بالاستثمارات الصينية والبنية التحتية والمبادلات التجارية، لكنها تُبدي حذرًا عندما تلامس الصين ملفات الأمن أو السياسة الداخلية، مخافة التورط في لعبة المحاور، أو تقويض علاقاتها التقليدية مع الغرب.

الهندسة الجيوسياسية الجديدة: الصين والتوازن بين القوى

ما تسعى إليه الصين ليس "ملء الفراغ" كما يُروّج، بل إعادة هندسة المنطقة بما يخدم رؤيتها متعددة الأقطاب. فبدل أن تدخل كبديل مباشر لأمريكا، تحاول بكين أن تقيم علاقات مزدوجة حتى مع خصوم بعضهم البعض: إيران والسعودية، إسرائيل والفلسطينيين، تركيا ومصر... دون أن تنحاز علنًا.

هذا التوازن ليس فقط دبلوماسيًا، بل استراتيجيًا واقتصاديًا. فالصين لا تملك قواعد عسكرية في المنطقة (باستثناء جيبوتي)، لكنها تبني موانئ، ومناطق صناعية، واتفاقيات تجارة طويلة الأمد تُربط بها الدول لعقود.

العراقيل الصامتة: تحفظات الخليج وإسرائيل

ورغم النجاحات الرمزية، يواجه التحرك الصيني مقاومة هادئة. بعض دول الخليج، رغم تنسيقها الاقتصادي مع بكين، لا ترى فيها بديلًا مضمونًا عن المظلة الأمنية الأمريكية. أما إسرائيل، فتخشى من اقتراب الصين من طهران أو دمشق، وترى في "الغموض الصيني" تهديدًا طويل الأمد.

القلق لا ينبع من عداء مباشر، بل من افتقاد الصين إلى التحالفات العسكرية الصلبة، ومن خوف حلفاء الغرب من أن تُفسّر واشنطن أي تقارب مفرط مع الصين على أنه انزلاق إلى "المعسكر الآخر" في حرب باردة جديدة.

الرؤية الصينية: من مبادرة الحزام إلى إعادة ترتيب النفوذ

الصين لا تسعى إلى فرض نفوذ أيديولوجي أو دعم أنظمة تابعة كما فعلت القوى الاستعمارية سابقًا. بل تبني نفوذها على ما يسمى "الاستقرار مقابل التنمية"، وهو عرض مغرٍ للأنظمة الباحثة عن شرعية اقتصادية دون تدخل في الحكم.

لكنّ هذا النموذج قد يُنتج تبعية طويلة الأمد، تعزل الدول عن الغرب دون أن تمنحها استقلالًا حقيقيًا، خصوصًا إذا ترافق مع ديون ضخمة وضعف إنتاج محلي.

خاتمة: ما الذي تخشاه الصين وما الذي تنتظره؟

رغم كل خطواتها، تتحرك الصين في المنطقة بأقدام ثقيلة. تدرك أن الشرق الأوسط حقل ألغام سياسي، وأن أي خطأ دبلوماسي قد يُكلّفها علاقاتها المتشابكة. لكنها في الوقت ذاته، تدرك أن لحظة "ما بعد الهيمنة الغربية" تقترب، وأن من يملأ الفراغ اليوم يضع أسس النظام الدولي القادم.

وعليه، فإن ما يجري في الشرق الأوسط ليس مجرد تحولات ظرفية، بل جزء من معركة كبرى تُرسم فيها خرائط النفوذ العالمي… وصعود الصين فيها ليس مسألة وقت فحسب، بل مسألة كيف ومع من.

+
أحدث أقدم

ويجيد بعد المقال


تنويه: هذا المقال (أو المحتوى) يقدم تحليلاً إعلامياً موضوعياً، ويخلو تماماً من أي تحريض أو دعوة للعنف، ويعكس رؤية نقدية متوازنة للأحداث، مع الالتزام التام بالأطر القانونية والمعايير المهنية.