
أولًا: استنزاف روسيا من دون مواجهة مباشرة
من منظور استراتيجي، أوكرانيا لم تكن يومًا الهدف؛ بل الوسيلة. فالحرب بالنسبة للولايات المتحدة ليست مجرد دعم لحليف مهدّد، بل فرصة نادرة لاستنزاف روسيا عبر وكيل محلي.
كل دبابة مدمّرة، وكل جندي روسي يُقتل، وكل صاروخ يُطلق، هو تكلفة تُدفع من الخزينة الروسية، وليس الأميركية. وهكذا تُنهك موسكو اقتصاديًا وعسكريًا من دون أن تُطلق واشنطن رصاصة واحدة مباشرة.
بل إن الولايات المتحدة، وفقًا لعقيدتها الجيوسياسية التقليدية، تسعى دومًا إلى عدم السماح بظهور قوة أوراسية منافسة (أي تحالف روسي-صيني-أوروبي محتمل). وإغراق روسيا في مستنقع أوكرانيا هو خطوة مثالية لتحقيق ذلك الهدف.
ثانيًا: صناعة التبعية الأوروبية من جديد
مع تصاعد الحرب، تخلت العواصم الأوروبية عن أي طموحات بالاستقلال الاستراتيجي، وعادت تُهرول نحو واشنطن.
- ألمانيا، التي كانت تدعو يومًا لجيش أوروبي مستقل، أصبحت تعتمد كليًا على حلف الناتو.
- أوروبا كلها باتت تستورد الغاز الأميركي باهظ الثمن، بعد تفجير خط نورد ستريم واختفاء الغاز الروسي.
- والمفارقة: الدول الأوروبية تدفع ثمن الحرب، بينما شركات السلاح الأميركية تحصد الأرباح.
وهكذا، فإن استمرار الحرب يُعيد تشكيل القارة العجوز وفق مزاج البنتاغون، ويُذكّر الجميع بمن هو “الضامن الحقيقي” للأمن الأوروبي.
ثالثًا: حفلة تسلح ومليارات تتدفق
الحرب الأوكرانية أنعشت مجمع الصناعات العسكرية الأميركية كما لم يحدث منذ عقود.
- مليارات الدولارات من الأسلحة تُرسل لكييف، ثم تُطلب اعتمادات جديدة من الكونغرس لإنتاج المزيد.
- دول أوروبية وآسيوية وقّعت صفقات ضخمة مع شركات أميركية لتعويض مخزونها.
- حتى أوكرانيا نفسها، تحوّلت إلى حقل تجارب حيّ لأسلحة حديثة تُختبر على أرض المعركة.
إنها “حرب مربحة” بالنسبة للوبيات السلاح، وكلما طال أمدها، تضاعفت الأرباح.
رابعًا: منع انتصار "النموذج الروسي"
أكثر ما تخشاه واشنطن ليس سقوط كييف، بل أن تنجح روسيا في فرض وقائع جديدة بقوة السلاح دون أن تُعاقَب.
لأن ذلك سيُشجع قوى كبرى أخرى – مثل الصين – على تكرار التجربة في ملفات مثل تايوان أو بحر الصين الجنوبي.
من هنا نفهم لماذا ترفض الإدارة الأميركية الاعتراف بأي تغيّر حدودي في دونباس أو القرم، رغم أنه واقع على الأرض. إن الهدف ليس فقط حماية أوكرانيا، بل حماية النظام العالمي الأميركي، حيث لا يجوز لأي قوة منافسة أن تفرض قواعد جديدة.
خامسًا: الانتخابات الأميركية و"الشكل"
الخطاب المتداول عن ضرورة إنهاء الحرب – حتى من شخصيات مثل ترامب – لا يعني نية حقيقية للتسوية. بل هو غالبًا:
- جزء من مزايدات انتخابية.
- أو رغبة في إعادة ترتيب شروط الحرب بشكل مختلف.
- أو في أقصى الحالات، تجميد الحرب لا إنهاؤها.
فالانسحاب الأميركي من دعم كييف سيُعتبر هزيمة سياسية ودبلوماسية، وهذا ما لا تريده أي إدارة أميركية، خصوصًا في عام انتخابي.
خاتمة:
الحرب في أوكرانيا ليست حربًا أوكرانية روسية فقط، بل هي أداة من أدوات الصراع العالمي على النفوذ والهيمنة. وما تفعله واشنطن ليس دعمًا لحرية الشعوب كما تُروّج، بل إدارة ذكية لصراع استنزافي يُبقي خصومها ضعفاء، وحلفاءها تابعين، وأسواقها مفتوحة.
ورغم كل التصريحات عن "رغبة في السلام"، فإن استمرار النزيف يخدم مصالح أعمق بكثير من حدود كييف.