المفارقة الآسيوية: اقتصاد يزدهر وشعوب تزداد فقرًا.. من يخطف التنمية في آسيا؟

في الوقت الذي تملأ فيه العناوين الصحفية تقارير عن "الصعود الآسيوي" و"القرن الآسيوي"، وتتنافس الحكومات على إظهار مؤشرات النمو الاقتصادي والتقدم التكنولوجي، يقبع ملايين من أبناء تلك الدول في فقرٍ مدقع، يعملون في ظروف قاسية، ويعيشون حياةً تخلو من أبسط مقومات الكرامة الإنسانية.

فكيف يمكن لاقتصاداتٍ أن "تنتعش" بينما شعوبها تغرق في الفاقة؟
هل نحن أمام وهمٍ اقتصادي مخادع، أم أن ما يجري هو نجاح حقيقي لكنّه محصور في طبقات ضيقة؟

النمو الاقتصادي ليس هو العدالة

الخلط بين النمو الاقتصادي والعدالة الاجتماعية هو جوهر التضليل في السرديات الرسمية. فحين يُقال إن الناتج المحلي الإجمالي للهند أو إندونيسيا أو الفلبين قد ارتفع بنسبة كذا، فإن هذا الرقم لا يعني بالضرورة أن حياة العامل في مصنع نسيج في دلهي قد تحسّنت، أو أن أطفال القرى في جافا قد حصلوا على مياه نظيفة، أو أن عاملة منزلية في مانيلا قد نالت أجراً عادلاً.

ما يحدث فعليًا هو أن الاقتصاد ينمو من الأعلى، بينما القاع يزداد اتساعًا. أرباح الشركات تتراكم، والاستثمارات تتدفق، ولكن التوزيع يبقى معطلاً. المليارديرات الآسيويون يتكاثرون، لكن كذلك الحال مع سكان العشوائيات.

اقتصاد السوق بوجهه المتوحش

النموذج الاقتصادي المفروض على أغلب الدول الآسيوية هو نموذج النيوليبرالية المتوحشة:

  • خصخصة كل شيء
  • تسليع التعليم والصحة
  • تفكيك شبكات الضمان الاجتماعي
  • جعل السوق الحَكم الأعلى على كل جوانب الحياة

في هذا السياق، يُطلب من المواطن أن "يشتغل على نفسه"، ويُحمَّل المسؤولية الفردية عن فقره، بينما تتراكم الأرباح في يد أقلية صغيرة تحظى بامتيازات السلطة ورأس المال والارتباط بالمراكز الغربية.

الصعود الآسيوي: لمن؟

نعم، آسيا صاعدة... لكن لمن؟

  • الصين تحقّق أرقامًا فلكية في التجارة والتكنولوجيا، لكن في الأطراف الداخلية تعيش مجتمعات مهمّشة لا تستفيد إلا بالحد الأدنى من الطفرة.
  • الهند تُسوَّق كقوة تكنولوجية كبرى، بينما يعمل مئات الملايين في أعمال غير رسمية دون أي حقوق.
  • إندونيسيا يُشاد بها كنموذج ديمقراطي مزدهر، بينما تعيش مئات الجزر حالة شبه نسيان.
  • الفلبين تعتمد على تحويلات العمالة المهاجرة، الذين يعيشون غرباء في أوطان الآخرين بينما يُنفق المسؤولون الفائض على مشاريع استعراضية.

السؤال الأهم: من المستفيد من هذا "الصعود"؟ هل هو العامل؟ الفلاح؟ المعلم؟ أم الطبقة المرتبطة بالمصالح العابرة للحدود؟

التنمية التي بلا إنسان

ما يجري في آسيا هو ما يمكن تسميته بـ**"التنمية المجوفة"**:

  • فيها طرق سريعة ومطارات وأسواق مالية...
  • لكن بلا ضمان اجتماعي حقيقي، بلا حقوق للعمال، بلا تمكين فعلي للمرأة، بلا محاربة جذرية للفقر الريفي.

المدن تتضخم، لكن الريف يُهمل. النخب تتعلم في الخارج، لكن التعليم العام في الداخل ينهار. الرؤية الرسمية لا ترى الإنسان، بل ترى الأرقام، والبيانات، والمشاريع، والتقارير الوردية.

الإعلام ودوره في تزييف الوعي

الإعلام الدولي والآسيوي المحلي يروّج لخطاب التنمية الناجحة، مستخدمًا نفس الأدوات:

  • سرد قصص نجاح فردية (رجل أعمال، امرأة صاعدة، تطبيق رقمي...)
  • إظهار ناطحات السحاب والمراكز التجارية كرموز للتقدم
  • الإشارة إلى تصنيف الدولة في مؤشر ما كمؤشر على "اللحاق بالعالم الأول"

لكن هذا الإعلام يتجاهل عمداً الحديث عن:

  • الجوع المزمن في بعض المناطق
  • ظاهرة الأطفال العاملين
  • قمع الاحتجاجات العمالية
  • أوضاع السكن العشوائي

يُجمَّل الواقع كي يبدو كما تريد الشركات والمستثمرون أن يروه: أرضًا خصبة بلا مطالب ولا نقابات ولا مقاومة.

علاقة آسيا بالمركز العالمي: السيد والتابع

حتى مع ازدياد وزنها الاقتصادي، تظل غالبية دول آسيا ضمن منظومة التبعية:

  • تُنتج الرخيص وتستهلك الغالي
  • تُصدّر المواد الخام واليد العاملة، وتستورد التكنولوجيا والثقافة
  • تنسج علاقاتها وفق ما تسمح به واشنطن أو بكين أو المؤسسات المالية الدولية

وهذا يعني أن حتى "نجاحها" مرتهن بموافقة الآخر، لا بتغيير في قواعد اللعبة. ما يجري هو إعادة ترتيب للمراكز داخل المنظومة ذاتها، لا خروجًا منها.

النتيجة: فقراء في اقتصادٍ غني

النتيجة المؤلمة هي أن ملايين البشر يعيشون في دول تُصنَّف كـ"اقتصادات ناشئة"، بينما هم شخصيًا:

  • يعملون بلا ضمانات
  • يسكنون في مساكن غير لائقة
  • لا يستطيعون دفع تكاليف العلاج أو التعليم
  • ويُلامون إن طالبوا بحقوقهم بأنهم "سلبيون" أو "يعيقون التنمية"

الواقع يكشف أن ما يُسمى "نجاحًا آسيويًا" ليس إلا وجهًا ناعمًا لواقع خشن.

هل من مخرج؟

الطريق للخروج من هذا التناقض ليس سهلًا، لكنه يبدأ بوضوح الرؤية:

  • أن نكفّ عن قياس التقدّم بالأرقام فقط
  • أن نربط النمو بالتوزيع العادل
  • أن نكسر هيمنة السرديات التي تمجّد الشركات وتتجاهل الإنسان
  • أن يُعاد بناء مفهوم التنمية ليكون من أجل الإنسان، لا على حسابه

أما بغير ذلك، فستظل آسيا تكبر في عين البنك الدولي، بينما يصغر الإنسان فيها أمام شبح الجوع والاستغلال.

 الخاتمة: حين يُختطف النمو من أهله

إنّ ما يُسوّق له كـ"معجزة آسيوية" ليس سوى عملية تجميل لواقع قائم على استغلال الإنسان باسم التنمية.
النمو الحقيقي لا يُقاس بما تجنيه الشركات، بل بما يشعر به المواطن العادي من كرامة وعدالة وأمان اجتماعي.
فحين تزداد الأبراج ولا تتناقص الأكواخ، وحين تنتفخ الحسابات البنكية وتضمر موائد الفقراء، نكون أمام نمو مختطَف، لا تقدّم حقيقي.

إنّ الشعوب لا تطلب معجزات اقتصادية، بل نظامًا يراها لا يستخدمها، يخدمها لا يستهلكها، يرفعها لا يدوسها.

وإلى أن يحدث ذلك، ستظل آسيا تنمو في المؤشرات… وتفقر في الضمير.

+
أحدث أقدم

ويجيد بعد المقال


تنويه: هذا المقال (أو المحتوى) يقدم تحليلاً إعلامياً موضوعياً، ويخلو تماماً من أي تحريض أو دعوة للعنف، ويعكس رؤية نقدية متوازنة للأحداث، مع الالتزام التام بالأطر القانونية والمعايير المهنية.