الاغتراب المعلّق: كيف تُستهلك أعمار العمال في الخارج بلا مستقبل؟

من بين أكبر تناقضات عالمنا الحديث، أن العامل العربي أو الآسيوي قد يعيش في مجتمع أكثر تطورًا، وأكثر انتظامًا قانونيًا، وأعلى من حيث البنية التحتية... لكنه رغم ذلك يبقى في أسفل السلم الاجتماعي، محرومًا من الأمان، والكرامة، والاستقرار الحقيقي.
إنها مأساة الاغتراب: أن يُستنزف الإنسان جسديًا ونفسيًا في سبيل ضرورات العيش، دون أن يُتاح له بناء مشروع حياة.
اقتصاد الطوارئ: حين تتحوّل الهجرة إلى آلية بقاء
الهجرة من الدول الفقيرة إلى الدول الغنية لم تعد قرارًا فرديًا، بل باتت آلية جماعية لدرء الفقر وسدّ الفجوة الاقتصادية التي تعجز الدولة الأم عن مواجهتها.
لكن هذا الحل المؤقت تحوّل إلى نمط حياة دائم، وإلى ما يُشبه الإدمان الاقتصادي:
- الأسر تعتمد على تحويلات المغترب بشكل كامل؛
- والدولة تدرج تلك التحويلات ضمن استراتيجياتها المالية؛
- والمغترب نفسه يعيش في معادلة مستنزفة: يعمل ليُعيل، لا ليبني ذاته.
حياة فردية لا شخصية لها
المغترب يُنتزع من جذوره الاجتماعية، ويوضع في بيئة عمل غالبًا ما تكون محكومة بالروتين، والرقابة، وضيق الوقت، وضعف العلاقات.
ورغم وجوده في دول أكثر ثراءً، فإن موقعه في تلك الدول يظل محدودًا، مرهونًا بتصريح إقامة أو عقد عمل قابل للإلغاء في أي لحظة.
يعيش حياة فردية منعزلة، تتكرّر كل يوم بلا أفق، أشبه بماكينة بشرية صامتة.
ويُطلَب منه فوق ذلك أن يبتسم في صور العائلة، وأن يُقنع نفسه بأن "الحياة أفضل هنا".
لا استثمار، لا ادخار، لا أمان
الأموال التي تُرسل إلى الوطن لا تُراكم ثروة، بل تذهب إلى سدّ الاحتياجات اليومية:
- دواء، قسط مدرسة، طعام، إيجار...
- وربما سداد ديون كانت سبب السفر أصلاً.
لكن المغترب لا يدّخر لنفسه شيئًا؛ لا يملك بيتًا في بلده، ولا مشروعًا صغيرًا في الخارج، ولا ضمانًا طبيًا أو تقاعدًا يكافئ سنوات الغربة.
إنه يؤمّن حاضر الآخرين، ويؤجّل مستقبله إلى أجلٍ غير مسمّى.
منفى مزدوج: لا انتماء هنا، ولا أمان هناك
المغترب لا يشعر بانتمائه الكامل للمجتمع الذي يعمل فيه؛
وغالبًا ما يُعامَل كضيف طارئ، أو كقوة عمل يُستفاد منها دون أن تُدمج.
لكنه أيضًا، حين يعود إلى وطنه، لا يجد فيه استقرارًا، ولا يعرف من أين يبدأ.
هو في واقع الأمر منفي من المجتمعين معًا:
- غريب في الخارج
- وغريب عن الداخل
وهم النجاح: حين تُقاس التضحية بالتحويلات
يُروّج كثير من الإعلام والسياسات الرسمية لفكرة "المغترب الناجح"
— ذلك الذي يسافر، يعمل، يرسل الأموال، ويشتري بعض الأجهزة لأسرته.
لكنهم يتجاهلون أن النجاح لا يُقاس بالتحويلات، بل بما يتحقق في الكرامة الشخصية، الاستقرار، وضمان الغد.
ما معنى أن تعمل ثلاثين عامًا في الخارج ثم تعود لتبدأ من الصفر؟
ما قيمة الغربة إن لم تفضِ إلى راحة؟
أي "نجاح" ذاك الذي يُستهلك فيه الجسد ولا يُصان فيه الإنسان؟
النظام الذي يربح من استنزاف البشر
الظاهرة ليست صدفة، بل نتيجة منظومة كاملة:
- دول تُصدّر البشر بدل أن تُنتج فرصًا لهم؛
- أسواق عمل تستغل الفقراء وتُخضعهم دون حماية؛
- حكومات تُراكم المديونية وتطلب من شعبها أن "يشدّ الحزام"، بينما تستهلك تحويلات العمال كمصدر تمويل غير معلن.
الرابح الأكبر هو النظام العالمي الذي يُقنّن الاستغلال ويجمّله.
خاتمة: حين تنتهي الرحلة دون بيت، ولا تقاعد، ولا عزاء
ينتهي الأمر بكثير من المغتربين إلى واقع مفجع:
- لا يملكون بيتًا في بلدهم،
- ولا وظيفة تليق بتاريخهم،
- ولا حتى جسدًا سليمًا بعد سنوات العمل الشاق.
كل ما لديهم: غرفة مستأجرة، أو جواز سفر منتهي، أو عائلة لم تعد تعرفهم عن قرب.
الغربة ليست خطيئة، بل أحيانًا قدر لا مفرّ منه.
لكن الخطأ القاتل أن تُترك هذه الفئة وحدها، بلا حماية، بلا خطة، بلا تقدير.
إنه اقتصاد بلا إنسان، وإنسان بلا مستقبل.