إبادة الهنود الحمر وإبادة فلسطين: نفس الكلمة، نفس الجريمة، وصمت دولي مريب


عندما يُذكر مصطلح "إبادة الهنود الحمر"، يتبادر إلى الأذهان مشهد دموي لا يُمحى من ذاكرة التاريخ، حيث تم تنفيذ سياسة منهجية للقتل الجماعي، والتهجير القسري، والتدمير المتعمد لهوية شعب أصلي وأرضه. هذه الإبادة ليست مجرد فصل أسود من التاريخ، بل معيار إنساني عالمي لجريمة ضد الإنسانية، ذات أبعاد فظيعة لا تزال حية في الوعي الجمعي. واليوم، بينما نشاهد المشهد المأساوي في فلسطين، لا يسعنا إلا أن نرسم خيطًا متصلاً بين تلك الإبادة التاريخية والواقع الفلسطيني المعاصر، إذ تتكرر نفس السياسات ذاتها ولكن ضمن سياق دولي حديث، وسط صمت دولي مريب يشكل تواطؤًا يطال جرائم الاحتلال ويديمها.

القتل الجماعي الممنهج: إذلال حياة وتدمير مستقبل

في إبادة الهنود الحمر، لم يكن القتل فعلًا عشوائيًا، بل سياسة ممنهجة تهدف إلى تفكيك وجود شعب بكامله. ملايين قُتلوا في حروب، مجاعات مفتعلة، وأمراض مستوردة، مبرمجة لإضعاف مقاومتهم وإخضاعهم. في فلسطين، نواجه سياسة مشابهة في صور حديثة: غارات جوية مكثفة تستهدف المدنيين، حصار خانق يفرض مجاعات وأزمات صحية، وعمليات عسكرية تهدف إلى إذلال الإنسانية الفلسطينية. تكدس الأجساد في المشافي والمقابر يكشف عن عمق المأساة، حيث سقط آلاف الضحايا، بينهم أطفال ونساء وشيوخ، في دوامة عنف لا تنتهي.

لكن الإبادة لا تتوقف عند القتل، بل تمتد إلى تدمير مستقبل شعب بأكمله عبر استهداف المؤسسات التعليمية والصحية، وتدمير البنية التحتية التي تحفظ حياة الإنسان وكرامته. المدارس والمستشفيات لا تفرق بين وظائفها الإنسانية والسياسية، فهي أهداف عسكرية لتدمير الروح المجتمعية وتدمير فرص الأجيال القادمة في التعلم والشفاء.

التهجير القسري: اقتلاع من الأرض وتجريد من الحق في الحياة

تمامًا كما طُرد الهنود الحمر من أراضيهم بالقوة، وتم تهجيرهم إلى مناطق قاحلة تفتقر إلى مقومات الحياة، يُمارس الاحتلال الإسرائيلي سياسة تهجير ممنهجة للفلسطينيين. المنازل تُهدم، القرى تُفكك، والمدن تُمحى من الوجود، لتحويل الفلسطيني إلى لاجئ في وطنه. هذا التهجير ليس حركة انتقالية فحسب، بل هو محاولة ممنهجة لإلغاء وجود الفلسطينيين على الأرض، ونزع حقهم الأساسي في السكن والحياة.

تكشف الخرائط الاستيطانية عن توسع مستمر في بناء المستوطنات على أراضٍ فلسطينية، وهو جزء من خطة ممنهجة لتحويل الوجود الفلسطيني إلى حبيس كتل معزولة، تخضع للسيطرة المباشرة والاقتصادية، وتحرم السكان من حرية التنقل والحياة الطبيعية.

طمس الهوية الثقافية والإنسانية: حرب على الذاكرة

في الإبادة التي تعرض لها الهنود الحمر، كانت هناك محاولات ممنهجة لمحو هويتهم الثقافية: منع لغتهم، تدمير معالمهم الروحية، وطمس تاريخهم. اليوم في فلسطين، لا يختلف الأمر كثيرًا. هناك حملات متواصلة تستهدف التعليم، الثقافة، والفنون، إذ تفرض قيودًا صارمة على حرية التعبير السياسي والفني، وتحاصر المواقع التاريخية والدينية.

دور الإعلام الدولي في هذه الحرب على الذاكرة كبير، إذ يسعى أحيانًا إلى تشويه صورة الفلسطيني، وتحويل مقاومته إلى تهديد أمني لا أكثر، مما يسهم في إضعاف الرواية الفلسطينية أمام العالم. في الوقت نفسه، تم تدمير آلاف المواقع التاريخية والدينية، التي هي جزء لا يتجزأ من الهوية الوطنية، ما يخلق فراغًا في الذاكرة الجماعية ويهدد استمرار التجربة الثقافية الفلسطينية.

الصمت الدولي: التواطؤ الخفي الذي يقتل بالخفاء

الفرق الجوهري بين إبادة الهنود الحمر وإبادة فلسطين يكمن في عصرنا الحديث في وجود صمت دولي مطبق، رغم توفر وسائل الإعلام الحديثة والتواصل الفوري. لكن هذا الصمت ليس نتيجة عجز أو جهل، بل هو تواطؤ سياسي ممنهج من قبل دول كبرى تملك القرار والقوة، ولها مصالح استراتيجية مع الاحتلال.

الولايات المتحدة، على سبيل المثال، تستخدم حق الفيتو في مجلس الأمن لإحباط أي قرار يدين الاحتلال أو يطالب بحماية المدنيين. كذلك تفعل بعض الدول الأوروبية وبعض الأنظمة الإقليمية التي تفضل مصالحها السياسية والاقتصادية على حساب العدالة والإنسانية. هذا الصمت السياسي والتواطؤ يضيفان بعدًا مظلمًا لإبادة الفلسطينيين، حيث تستمر السياسات القمعية دون محاسبة، وتُترك فلسطين وحيدة في مواجهة آلة دمار منظمة.

كما يلعب الإعلام الدولي دورًا بارزًا في التعتيم على هذه الجرائم، عبر تقديم الروايات المنحازة، وتجاهل معاناة المدنيين الفلسطينيين، أو تقليل خطورة الجرائم، ما يبرر الاستمرار في هذا الظلم الصارخ.

الإبادة: حقيقة لا تقبل المراوغة

إن تسمية ما يحدث في فلسطين "إبادة" ليست تهويلاً أو مجازًا، بل توصيف دقيق يفرضه الواقع الميداني والإنساني، حيث تتكرر عناصر الإبادة التاريخية: القتل الجماعي الممنهج، التهجير القسري، تدمير البنية التحتية، وسلب الحقوق الأساسية، في ظل صمت دولي مريب.

تقارير منظمات حقوقية دولية مثل "هيومن رايتس ووتش" و"العفو الدولية"، وكذلك تقارير الأمم المتحدة، تؤكد تزايد أعداد الضحايا المدنيين، وتدمير آلاف المنازل والمؤسسات الحيوية. آلاف الأطفال فقدوا حياتهم، ومئات الآلاف يعيشون تحت ظروف قاسية بسبب الحصار والعنف المستمر.

هذه السياسة تشكل "إبادة صامتة" أو "إبادة مموهة"، تتم عبر حصار مطبق، حرمان من الخدمات الأساسية، وتجويع ممنهج، في إطار حصار ديموغرافي يهدف إلى القضاء على وجود شعب بأكمله دون إثارة ردود فعل عالمية كبرى.

دعوة للضمير العالمي

إبادة فلسطين ليست مجرد مأساة محلية أو نزاع إقليمي، بل تحدٍ أخلاقي وإنساني أمام الضمير العالمي. لم يعد مقبولًا أن يستمر هذا الصمت المريب، الذي يشكل تواطؤًا خفيًا، يسمح باستمرار آلة الدمار والقتل.

اليوم، لا يكفي مجرد إدانة ما يحدث، بل يجب أن يتحول الوعي الدولي إلى حركة تضامن فعلية، تفرض الضغوط السياسية والقانونية على الحكومات والمؤسسات الدولية لوقف هذه الجرائم، ومحاسبة المسؤولين عنها، واستعادة الحقوق المشروعة للفلسطينيين في الحياة والكرامة والحرية.


ملخص تقارير رسمية وأبرز الاقتباسات الداعمة:

1. تقرير مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية للأمم المتحدة (OCHA) - 2024

  • الضحايا: "منذ بداية العام الحالي، قُتل أكثر من 500 مدني فلسطيني، بينهم 150 طفلاً، نتيجة العمليات العسكرية والاشتباكات في غزة والضفة الغربية."
  • الدمار: "تم تدمير أو إلحاق أضرار جسيمة بأكثر من 1200 منزل ومؤسسة حيوية، مما أدى إلى تهجير آلاف الأسر الفلسطينية، وخلق أزمة إنسانية مستمرة."
  • الوضع الصحي: "الأنظمة الصحية في قطاع غزة على وشك الانهيار بسبب نقص الإمدادات الطبية وحصار طويل الأمد، ما يفاقم معاناة المرضى والجرحى."

2. تقرير هيومن رايتس ووتش (HRW) - "السياسات الاستيطانية والتطهير العرقي" - 2023

  • تصنيف الجرائم: "تعتمد إسرائيل على سلسلة من السياسات التي تهدف إلى تهجير الفلسطينيين قسرًا من أراضيهم، مما يمكن تصنيفه كجريمة تطهير عرقي بموجب القانون الدولي."
  • التهجير القسري: "تشير الأدلة إلى أن عمليات الهدم والتهجير تستهدف بشكل ممنهج المدنيين الفلسطينيين، بمن فيهم النساء والأطفال، في انتهاك صارخ للحقوق الأساسية."
  • الاستيطان: "التوسع المستمر للمستوطنات يشكل عقبة رئيسية أمام السلام ويُعزز من الاحتلال غير القانوني للأراضي الفلسطينية."

3. تقرير منظمة العفو الدولية (Amnesty International) - 2023

  • القتل غير المشروع: "وثقت العفو الدولية حالات عدة لعمليات قتل مدنيين فلسطينيين بدون تمييز خلال عمليات عسكرية، ما يشكل خرقًا للقانون الدولي الإنساني."
  • القيود على حرية التعبير: "تفرض السلطات الإسرائيلية قيودًا مشددة على النشاط الثقافي والسياسي الفلسطيني، وتعتقل الناشطين والصحفيين في محاولة لإسكات الأصوات المعارضة."
  • تدمير التراث الثقافي: "يتم استهداف المواقع التاريخية والدينية الفلسطينية، ما يشكل انتهاكًا لحقوق الفلسطينيين في الحفاظ على هويتهم وتراثهم."

4. شهادات فلسطينية من منظمة "بتسيلم" (B’Tselem) - 2024

  • شهادة الناجية من التهجير: "تم هدم منزل عائلتي في بلدة سلوان، وتركنا بلا مأوى في ليلة شتاء قاسية. لا نعرف إلى أين نذهب، والسلطات لا تعيرنا أي اهتمام."
  • شهادة طبيب من غزة: "المستشفيات تعاني من نقص حاد في الأدوية والأجهزة، ونشهد يوميًا حالات وفاة يمكن تفاديها لو توفرت الإمكانات."

+
أحدث أقدم

ويجيد بعد المقال


تنويه: هذا المقال (أو المحتوى) يقدم تحليلاً إعلامياً موضوعياً، ويخلو تماماً من أي تحريض أو دعوة للعنف، ويعكس رؤية نقدية متوازنة للأحداث، مع الالتزام التام بالأطر القانونية والمعايير المهنية.