
المجد التاريخي لبغداد
أسس الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور بغداد سنة 762م لتكون عاصمة الخلافة الإسلامية، ومركزًا حضاريًا يجمع بين مختلف الثقافات. احتضنت المدينة "بيت الحكمة" الذي جمع التراث الإغريقي والفارسي والهندي، ونقل المعرفة عبر حركة ترجمة واسعة، فكانت منبعًا للفكر الحر والإبداع العلمي في الطب، الفلك، الرياضيات، الفلسفة، والآداب.
في عصرها الذهبي، لم تكن بغداد مجرد مدينة، بل كانت عاصمة للعالم، وملتقى للتجار، والفنانين، والعلماء من شتى البقاع.
الانكسارات الكبرى عبر التاريخ
لكن بغداد لم تسلم من عواصف التاريخ:
- 1258م: اجتاحها المغول بقيادة هولاكو، فقتلوا عشرات الآلاف وأحرقوا مكتباتها، في كارثة حضارية غيرت مسار المنطقة.
- العهد العثماني: شهد استقرارًا نسبيًا لكنه حوّل بغداد إلى مركز إقليمي محدود التأثير، بعيدًا عن دورها العالمي السابق.
- الاحتلال البريطاني (1917م): أسس دولة العراق الحديثة بحدود مصطنعة، مما زرع بذور النزاعات الداخلية.
- العصر الحديث: شهدت بغداد صعود أنظمة متعاقبة، ثم حروبًا داخلية وخارجية، وصولًا إلى الغزو الأمريكي عام 2003 الذي فجّر الأوضاع الأمنية والسياسية.
بغداد في الواقع الراهن
اليوم، تواجه بغداد أزمات متشابكة:
- أمنية: تفجيرات واشتباكات متقطعة تهدد الحياة اليومية.
- سياسية: صراعات بين الأحزاب والطوائف، مع نفوذ متزايد لقوى إقليمية ودولية في القرار العراقي.
- اقتصادية وخدمية: بنية تحتية منهكة، نقص في الكهرباء والمياه، وتراجع كبير في الخدمات العامة.
- ثقافية: إهمال المواقع الأثرية والمكتبات، وسرقة أو تهريب الآثار، ما يمحو جزءًا من الذاكرة الحضارية.
ما وراء المشهد: تحليل نقدي
انهيار مكانة بغداد ليس وليد صدفة، بل نتاج منظومة معقدة من العوامل:
- التدخلات الأجنبية التي أطاحت بالبنية السياسية والأمنية، وأدخلت البلاد في دوامة فراغ سلطوي.
- الصراع الطائفي الذي غذّته قوى خارجية لضمان استمرار الانقسام وإضعاف الدولة المركزية.
- الفساد السياسي الذي بدد ثروات العراق، وحوّل الموارد إلى أدوات للنفوذ بدل أن تكون لبناء الدولة.
- تواطؤ النخب التي لم تحمِ التراث ولا السيادة، بل انخرطت في لعبة المحاور الإقليمية والدولية.
خاتمة
بغداد، التي كانت يومًا قبلة العلماء ومركزًا للتسامح والتنوع، تواجه اليوم أخطر اختبار في تاريخها الحديث. إما أن تستعيد روحها الحضارية، أو تبقى أسيرة للصراعات التي تمزقها. إن مصير بغداد لا يخص العراقيين وحدهم، بل يمثل قضية إنسانية عالمية، لأن سقوطها الكامل يعني خسارة جزء من ذاكرة البشرية وإرثها الحضاري.