روسيا وغزّة: كيف يرتبط صمود المقاومة بالأمن القومي الروسي؟

منذ 7 أكتوبر، لم تعد غزّة “ملفًا فلسطينيًا” منفصلًا، بل عقدة على خط التماس بين موسكو وواشنطن.
أي انتصارٍ إسرائيليٍّ صافٍ يُترجَم زيادةً في رصيد الهيمنة الأمريكية، وأي صمودٍ فلسطينيٍّ يُبقي واشنطن غارقة في استنزافٍ إقليمي.
روسيا، بوصفها قوةً مُراجِعة للنظام الدولي، تقيس الحرب بما تتركه من موازين نفوذ حول الطاقة والتحالفات وشرعية السرديات.
السؤال لم يعد: من يسيطر على غزة؟ بل: من يملك حقّ تعريف “الاستقرار” في الشرق الأوسط؟
من هنا، يتصل مصير غزة مباشرةً بهندسة الأمن القومي الروسي—ولو من خلف البحرين الأسود والمتوسط.

أولًا: روسيا كقوة مُراجِعة للنظام الدولي

  • عقل المصلحة: موسكو لا تبحث عن “نصر أيديولوجي” بل عن تقليص قدرة واشنطن على فرض نتائج استراتيجية أحادية.
  • قاعدة اللعبة: كل ساحة تثبت حدود القوة الأمريكية—من أوكرانيا إلى غزّة—تعزّز سردية موسكو أمام الجنوب العالمي بأن النظام أحادي القطبية يتآكل.
  • تعريف التهديد: انتصار أمريكي–إسرائيلي حاسم يعيد ضبط المنطقة على إيقاع واشنطن، ما يوسع طوق الضغط على روسيا من الجنوب بعد الغرب (الناتو) والشرق (اليابان).

ثانيًا: غزّة كورقة توازن لا كـ“ملف إنساني”

  • وظيفة جيوسياسية: بقاء المقاومة لاعبًا فعّالًا يعني استمرار القيود على حرية الحركة الإسرائيلية والأمريكية في الإقليم.
  • ترابط الساحات: كل ضغطٍ ينقص على واشنطن في المشرق يرفع يدها قليلًا عن أوكرانيا، ويزيد كلفة إدارة التحالفات الأوروبية.
  • سردية الشرعية: صور الحصار والدمار تعمّق فجوة الرأي العام الدولي مع السياسات الأمريكية، فتمنح موسكو هامشًا دعائيًا ودبلوماسيًا.

ثالثًا: الطاقة والممرات… جوهر صلب للأمن الروسي

  • خرائط الغاز: شرق المتوسط (غاز إسرائيل/قبرص/مصر) وممرّاته البحرية/البرية بدائل مستقبلية لأوروبا. إحكام واشنطن–تل أبيب قبضتها عليها يقلّص وزن الغاز الروسي.
  • سوق “الملجأ”: كلما اتسعت قدرة أمريكا على إعادة توجيه إمدادات الشرق الأوسط، تراجعت قدرة موسكو على استخدام الطاقة كأداة نفوذ.
  • المضائق والموانئ: حضور روسي في المتوسط (طرطوس/حميميم) يحتاج بيئة إقليمية لا تهيمن عليها مظلة أمريكية صافية.

رابعًا: مسرح الشام وسلسلة الأمان الروسية

  • سوريا حلقة ارتكاز: تحييد دمشق أو تحجيم إيران يضع الوجود الروسي هناك في عزلة استراتيجية.
  • التنسيق مع إسرائيل: موسكو تحتاج “سطح تهدئة” مع تل أبيب فوق سماء سوريا، لكن دون أن يتحول ذلك إلى ضوءٍ أخضر لهيمنة إسرائيل كاملة في المشرق.
  • التوازن مع طهران: دعم محور المقاومة بما يكفي لمنع الحسم الإسرائيلي—لا بما يشعل مواجهة شاملة تربك حسابات موسكو.

خامسًا: ما الذي تريده موسكو فعليًا؟

  1. منع الحسم: لا هزيمة ساحقة لغزة ولا انتصارًا كاملاً لإسرائيل.
  2. إطالة الظل: صراع منخفض–متوسط الشدة يبقي واشنطن في حالة استنزاف سياسي/إعلامي/لوجستي.
  3. تعدد الوسطاء: تكريس دور روسي–تركي–قطري–مصري في الوساطات، لتخفيف انفراد واشنطن بتعريف “الحل”.
  4. تعظيم المكاسب الرمزية: تسويق روسيا كصوتٍ “مُوازن” في مجلس الأمن وأمام العالم الإسلامي، يرفد شرعيتها في الجنوب العالمي.

سادسًا: أدوات موسكو العملية

  • الدبلوماسية الذكية: بيانات مشفوعة بتحركات في مجلس الأمن ومسارات تبادل الأسرى/الهدن، تُبقي روسيا حاضرة دون تورّط مباشر.
  • اللوجستيات غير المباشرة: غضّ الطرف أو تسهيلات محدودة لشركاء المقاومة، مع عدم كشف روسيا كطرف مباشر.
  • حرب السرديات: إبراز كلفة الحسم الإسرائيلي على الاستقرار الإقليمي، وربطها بمصالح الطاقة الأوروبية لإحداث شقوق داخل المعسكر الغربي.

سابعًا: السيناريوهات وتأثيرها على الأمن القومي الروسي

أ) حسمٌ إسرائيليٌّ/أمريكيٌّ واضح

  • تطبيع أوسع، تضييق على إيران وسوريا، تنظيم خرائط الطاقة بقيادة أمريكية.
  • على روسيا: تضييق استراتيجي من الجنوب، تآكل قيمة أوراق سوريا/إيران، وتراجع وزن الغاز الروسي نسبيًا.
  • أسوأ مآل لموسكو—ليس طارئًا وجوديًا، لكنه يقضم من هوامشها الحيوية.

ب) استنزافٌ طويلٌ بلا غالبٍ ولا مغلوب

  • استمرار الضغط على واشنطن وتل أبيب، تآكل شرعية “الحسم”، وتعظيم دور الوسطاء المتعددين.
  • على روسيا: أفضل توازن—كلفة منخفضة وعوائد سياسية/سردية عالية، مع إبقاء قواعدها في سوريا آمنة.
  • السيناريو المُفضّل للكرملين.

ج) توسّعٌ إقليميٌّ خارج السيطرة

  • انخراط أطراف متعددة (لبنان/اليمن/العراق)، اضطراب ممرّات الطاقة والتجارة.
  • على روسيا: مكاسب دعائية ضد واشنطن، لكن مخاطر على استقرار الساحل السوري وأسعار الطاقة/سلاسل التوريد.
  • مكلف وملتبس—تربحه موسكو سرديًا وقد تخسره لوجستيًا.

ثامنًا: هل يمسّ سقوط غزة الأمن القومي الروسي؟

نعم… بصورة غير مباشرة ولكن عميقة.
هزيمة غزة تعني عمليًا ترسيخ إيقاع أمريكي–إسرائيلي لإدارة المشرق، ما يضغط على:

  • حرية الحركة الروسية في المتوسط والشام،
  • أوراق الطاقة والعبور التي تستخدمها موسكو ضمن مقايضاتها،
  • سردية التوازن الدولي التي تُسوّقها روسيا لدى حلفاء الجنوب العالمي.

صمود غزة—ولو بحدّه الأدنى—يبقي أبواب المساومة مفتوحة، ويمنح موسكو مجالًا مناورًا ضد الطوق الغربي.

تاسعًا: الدعم الروسي المحتمل لغزة (غير مباشر)

  • دبلوماسي وإعلامي: إبقاء النزاع حيًّا، إطالة أمد الصراع، الضغط على واشنطن وتل أبيب.
  • لوجستي محدود: السماح لحلفاء المقاومة بتحركات محدودة، دون تورّط مباشر.
  • هدف الاستراتيجية: استمرار الاستنزاف الإسرائيلي، الحفاظ على نفوذ روسيا في سوريا والشرق الأوسط، وتعظيم دورها كوسيط عالمي.

خلاصة

روسيا لا ترضى بانتصار كامل لإسرائيل في غزّة، لأنها سيصب مباشرة في صالح أمريكا ويقلص نفوذ موسكو الإقليمي. لكنها لا تريد مواجهة مفتوحة، لذلك تعتمد على استراتيجية الاستنزاف الذكي: دعم غير مباشر، وسردية إعلامية، ووساطات متعددة. غزة بهذا المعنى أصبحت عنصرًا في الأمن القومي الروسي، ليس لموقعها الجغرافي، بل لموقعها في ميزان النفوذ الدولي.

+
أحدث أقدم

ويجيد بعد المقال


تنويه: هذا المقال (أو المحتوى) يقدم تحليلاً إعلامياً موضوعياً، ويخلو تماماً من أي تحريض أو دعوة للعنف، ويعكس رؤية نقدية متوازنة للأحداث، مع الالتزام التام بالأطر القانونية والمعايير المهنية.