المدن الميتة: حلب والموصل: حين يتحول التاريخ إلى أطلال سياسية

لم تكن حلب والموصل مجرد مدينتين في الجغرافيا، بل كانتا بمثابة "ذاكرتين حضاريتين" تختصران تاريخ المنطقة وثقلها الرمزي. فمنذ القرون الوسطى كانت المدينتان عقدة مواصلات، ومراكز للعلم والتجارة والفن، وملتقى حضارات شكلت وجدان المشرق العربي. لهذا السبب لم يكن ما تعرضتا له من دمار مجرد نتيجة حرب، بل كان استهدافًا واعيًا لرموز متجذرة في التاريخ.

حلب: اغتيال حاضرة التجارة والعمران

حلب التي قاومت الصليبيين والمغول، ووقفت شامخة عبر العصور، تحولت في سنوات قليلة إلى مدينة محطمة. لم يكن القصف مجرد عمل عسكري، بل كان "عملية إعدام" لذاكرة المدينة. الأسواق القديمة، الجامع الأموي، الأحياء التراثية؛ كلها سُويت بالأرض لتُمحى صورة المدينة التي كانت مركزًا للتعدد والثراء الثقافي. إن ما جرى لم يكن صدفة في معركة، بل سياسة مدروسة لتفكيك إحدى أكبر الحواضر العربية.

الموصل: من عاصمة الخلافة إلى مدينة أشباح

أما الموصل، فقد استُهدفت بطريقة أخرى. حين احتلتها "داعش"، لم يكن الهدف السيطرة العسكرية فقط، بل تحويلها إلى رمز للفوضى، ثم تحويل تحريرها لاحقًا إلى ملحمة تدمير شامل. المدينة التي كانت يومًا ما مركزًا للحضارة الإسلامية والعباسية، تحولت إلى ركام يروي حكاية تلاعب دولي وإقليمي، حيث كان الدمار جزءًا من المشهد المخطط، لا مجرد نتيجة ثانوية.

الخراب كأداة سياسية

في الحالتين، الرسالة كانت واضحة: المدينة العربية ليست حصنًا يصمد أمام المخططات، بل كيان هش يمكن هدمه وإعادة تشكيله. الخراب هنا ليس نتيجة عسكرية فحسب، بل وسيلة سياسية لإعادة رسم الخريطة، وإخضاع السكان عبر محو ذاكرتهم الجمعية.

درس التاريخ القريب

حلب والموصل اليوم ليستا مجرد مدينتين مهدَّمتين، بل هما نموذج لكيفية تحويل التاريخ إلى أطلال سياسية. فالمشروع لا يكتفي بقتل الناس، بل يقتل المكان الذي يمنحهم معنى. ومن هنا يبدأ موت الوطن: من موت مدنه.

سلسلة: المدن الميتة: كيف تُهدم الأوطان من الداخل؟

+
أحدث أقدم

ويجيد بعد المقال


تنويه: هذا المقال (أو المحتوى) يقدم تحليلاً إعلامياً موضوعياً، ويخلو تماماً من أي تحريض أو دعوة للعنف، ويعكس رؤية نقدية متوازنة للأحداث، مع الالتزام التام بالأطر القانونية والمعايير المهنية.