المدن الميتة: بيروت الممزقة: خراب ناعم بعد الحروب الصلبة

بيروت ليست مجرد عاصمة، بل كانت دائمًا صورة مكثفة عن التناقضات التي تحكم المشرق العربي: مدينة بحرية مفتوحة على العالم، ومركز ثقافي وفكري، وفي الوقت نفسه ساحة صراع إقليمي ودولي لا ينتهي. لذلك، كان استهدافها عبر التاريخ يتخذ أشكالًا متعددة، من الحرب الأهلية الطويلة إلى الانفجار الغامض الذي دمّر مرفأها، لتبقى بيروت نموذجًا للمدينة التي تُهدم بلا مدافع.

الحرب الأهلية: بداية التمزق

منذ منتصف السبعينيات، تحولت بيروت إلى مسرح لحرب أهلية أطالت عمرها التدخلات الخارجية. لم يكن الدمار نتيجة خصومات داخلية فحسب، بل نتاجًا لصراع دولي على أرض صغيرة. ومع كل جولة قتال، كان عمران المدينة يتفتت، وكانت بنيتها الاجتماعية تنقسم أكثر. وبانتهاء الحرب لم تنهض بيروت، بل أُعيد تشكيلها على صورة نظام سياسي هش، قائم على المحاصصة والتبعية.

انفجار المرفأ: الخراب الصامت

في الرابع من آب 2020، لم تُقصف بيروت من الجو، بل انفجرت من داخلها. كارثة المرفأ لم تكن حادثًا عرضيًا، بل عنوانًا لمرحلة "الخراب الناعم" الذي يحكم لبنان: فساد متجذّر، إهمال ممنهج، وتواطؤ سياسي جعل المدينة عرضة لانفجار بحجم حرب. المباني سقطت، آلاف البيوت تهدمت، والمرفأ الذي كان شريان الاقتصاد تحوّل إلى ركام. إنها لحظة تختصر كيف يمكن للمدينة أن تُدمر ببطء من الداخل، دون حاجة لجيوش غازية.

الخراب بوصفه سياسة

ما جرى لبيروت يكشف أن الهدم لا يكون دائمًا بالقصف. أحيانًا تُترك المدن لتنهار من تلقاء نفسها، عبر منظومة سياسية فاسدة، واقتصاد تابع، ونظام يستهلك قدرات المجتمع حتى يفقد القدرة على الترميم. هنا يصبح "الخراب الناعم" أكثر فتكًا من الحرب: لأنه يميت المدينة دون أن يثير صدمة فورية، ويحوّل الانهيار إلى أمر اعتيادي.

بيروت كرمز

اليوم، تبدو بيروت وكأنها مدينة بلا مستقبل، ممزقة بين الأطلال والفساد والعجز. لكنها في العمق ليست حالة منفصلة، بل جزء من مشروع أوسع لتحويل المدن العربية إلى كيانات مشلولة: بعضها يُهدم بالمدافع، وبعضها ينفجر من الداخل، لكن النتيجة واحدة—مدينة بلا حياة.

سلسلة: المدن الميتة: كيف تُهدم الأوطان من الداخل؟

+
أحدث أقدم

ويجيد بعد المقال


تنويه: هذا المقال (أو المحتوى) يقدم تحليلاً إعلامياً موضوعياً، ويخلو تماماً من أي تحريض أو دعوة للعنف، ويعكس رؤية نقدية متوازنة للأحداث، مع الالتزام التام بالأطر القانونية والمعايير المهنية.