أزمة أمريكا وفنزويلا: من صراع النفط إلى حافة الحرب في الكاريبي

لم تكن علاقة الولايات المتحدة بفنزويلا يومًا علاقة طبيعية، فهي محكومة بتاريخ طويل من الهيمنة الأمريكية على أمريكا اللاتينية، ومنذ عهد هوغو تشافيز دخلت كاراكاس في مواجهة مفتوحة مع واشنطن. لكن التطورات الأخيرة في البحر الكاريبي دفعت الأزمة إلى مستوى جديد، حيث لم يعد الصراع مجرد عقوبات اقتصادية أو حرب نفطية، بل بات مشهدًا متكاملًا من عسكرة الحدود والتلويح بالحرب.

النفط والهيمنة: الجذور الأولى للأزمة

فنزويلا تملك أكبر احتياطي نفطي مؤكد في العالم، لكنها اختارت الخروج عن فلك البترودولار ونسج علاقات وثيقة مع الصين وروسيا وإيران. هذا التوجه جعلها في مرمى العقوبات الأمريكية التي استهدفت اقتصادها حتى شُلّت قدرتها على تصدير النفط بحرية. ورغم الحصار الخانق، بقيت الدولة صامدة، مما دفع واشنطن إلى الانتقال من الضغوط الاقتصادية إلى التصعيد العسكري.

التصعيد الأخير: البحر الكاريبي على صفيح ساخن

في سبتمبر 2025 شهدت الأزمة منعطفًا حادًا:

  • الولايات المتحدة شنت ضربة صاروخية على زورق في البحر الكاريبي تتهمه بتهريب مخدرات لصالح عصابة Tren de Aragua الفنزويلية، ما أدى إلى مقتل 11 شخصًا. كاراكاس نفت الرواية ووصفت الفيديو الأمريكي بـ"المفبرك".

  • دفعت واشنطن بأسطول ضخم يضم مدمرات وغواصات وطائرات F-35 نُشرت في بورتو ريكو، ضمن ما سمته "الحرب على المخدرات".

  • ردّت فنزويلا بتحليق طائرات F-16 على مسافة قريبة من المدمرة الأمريكية USS Jason Dunham، وهو ما اعتبره البنتاغون "استفزازًا خطيرًا".

  • الرئيس ترامب هدّد بإسقاط أي طائرة فنزويلية إذا اقتربت من الأسطول، بينما ظهر مادورو بخطاب مزدوج: التعبئة الشعبية للدفاع عن السيادة، مع إبقاء باب الحوار مفتوحًا.

ما وراء خطاب الحرب على المخدرات

الحديث الأمريكي عن مكافحة عصابات المخدرات ليس سوى الغطاء السياسي للتدخل. جوهر الأزمة هو استمرار فنزويلا في تمردها على النظام العالمي الذي تفرضه واشنطن. فاستهداف مادورو عبر بوابة "المخدرات" يشبه استهداف صدام حسين عبر "أسلحة الدمار الشامل": رواية لتبرير تدخل يهدف في عمقه إلى إعادة بلد متمرد إلى بيت الطاعة الأمريكي.

أمريكا اللاتينية أمام اختبار جديد

الحدث يتجاوز فنزويلا، فهو رسالة إلى القارة كلها: أي محاولة للاستقلال عن واشنطن ستُقابل بالقوة. لكن الصورة ليست كما كانت في القرن العشرين، إذ إن الصين وروسيا باتتا حاضرتين بثقلهما، ودولًا مثل كوبا وبوليفيا ونيكاراغوا تراقب التطورات بترقّب، فيما قد يؤدي أي عدوان أمريكي مباشر إلى اصطفافات جديدة ضد الهيمنة.

سيناريوهات المستقبل: إلى أين تتجه الأزمة؟

  1. حرب محدودة في البحر الكاريبي
    قد تنزلق الأمور إلى مواجهة بحرية أو جوية محدودة، لا تصل إلى غزو بري، بهدف ردع فنزويلا وإعادة ضبط قواعد اللعبة دون كلفة باهظة على واشنطن.

  2. تسوية دبلوماسية بضغوط اقتصادية
    الأكثر ترجيحًا أن تفضي الضغوط والعسكرة إلى مفاوضات غير مباشرة، برعاية دول وسيطة (مثل المكسيك أو البرازيل)، تؤدي إلى تنازلات جزئية من مادورو مقابل تخفيف العقوبات.

  3. إعادة تموضع إقليمي ضد واشنطن
    إذا استمرت التهديدات الأمريكية دون تدخل مباشر، فقد تستغلها كاراكاس لتعزيز تحالفاتها مع موسكو وبكين، ولتصبح الأزمة منصة لتوسيع النفوذ المناهض للهيمنة الأمريكية في القارة.

الخلاصة: عالم ما بعد الأحادية

الأزمة الحالية تجعل القارئ كمن يشاهد فيلمًا في ذروته: أساطيل تتحرك، طائرات تحلّق، تصريحات تهدد بالحرب، ورئيس يلوّح بالتعبئة الشعبية. لكن خلف هذا المشهد العسكري يكمن السؤال الأعمق: هل ما زالت واشنطن قادرة على فرض وصايتها على القارة اللاتينية كما في السابق؟ أم أن فنزويلا ستكون بوابة النهاية لعصر الأحادية الأمريكية؟

+
أحدث أقدم

ويجيد بعد المقال


تنويه: هذا المقال (أو المحتوى) يقدم تحليلاً إعلامياً موضوعياً، ويخلو تماماً من أي تحريض أو دعوة للعنف، ويعكس رؤية نقدية متوازنة للأحداث، مع الالتزام التام بالأطر القانونية والمعايير المهنية.