
تراجع الهيمنة الأميركية
منذ الحرب الباردة كان الهدف الأميركي أن تبقى روسيا محاصرة وأن تُستقطب الهند إلى المدار الغربي. لكن سياسات العقوبات والإملاءات لم تؤدِّ سوى إلى عكس النتائج: موسكو عززت تحالفها مع بكين، ونيودلهي اتجهت نحو استقلالية أكبر في خياراتها الاستراتيجية. هذا التحول يشي بأن القطب الواحد ينهار، وأن تعددية الأقطاب باتت واقعاً.
الهند بين واشنطن وبكين
الهند، التي راهنت عليها واشنطن كقوة آسيوية صاعدة في مواجهة الصين، لم تجد في الضغوط الغربية ما يغريها بالارتهان. النزعة القومية في الداخل الهندي دفعت نحو سياسات أكثر استقلالية، فيما فتحت الصين قنوات تعاون اقتصادي وتجاري جعلت التقارب معها خياراً منطقياً، رغم الخلافات الحدودية. فالهند تسعى للتوازن لا للانخراط في لعبة المحاور الأميركية.
روسيا: الخصم الذي صنعه الغرب
محاولة الغرب عزل روسيا عبر العقوبات بعد حرب أوكرانيا سرّعت اندماجها في المشروع الصيني. بدلاً من إضعاف موسكو، أدى الضغط إلى إعادة تموضعها داخل الفضاء الأوراسي، وتحالفها مع بكين في ملفات الطاقة والتجارة والسلاح. الغرب بذلك أسهم – من حيث لا يريد – في تشكيل محور مضاد يهدد نفوذه العالمي.
الصين المستفيد الأكبر
الصين هي الرابح الرئيسي من هذه الانزياحات. فهي لم تكتفِ بالتحالف مع روسيا، بل استثمرت في استمالة الهند، وطرحت نفسها شريكاً بديلاً لدول الجنوب التي ضاقت ذرعاً بالوصاية الغربية. هذه القدرة على تحويل التناقضات إلى فرص جعلت بكين في موقع "المركز البديل"، حيث تتلاقى مصالح قوى صاعدة ضد نظام الهيمنة القديم.
ترامب بين الاعتراف والاستثمار
خطاب ترامب هنا مزدوج:
-
اعتراف صريح بأن أوراقاً استراتيجية خرجت من يد أميركا.
-
استثمار انتخابي يقدمه على أنه فشل خصومه الديمقراطيين، مقدماً نفسه كمنقذ قادر على "إعادة ضبط" الخسائر.
لكن الأعمق أن هذا الخطاب يكشف ما يتجنبه الساسة الأميركيون عادة: الاعتراف بأن عالم ما بعد التفرد الأميركي قد بدأ فعلاً.
التوقعات المستقبلية: تحالف دائم أم تقاطع مصالح؟
رغم التقارب الواضح، فإن العلاقة بين روسيا والصين والهند ليست قدراً محتوماً بالاندماج الكامل، بل تحمل مسارات محتملة:
-
تحالف أوراسي متماسك
إذا استمرت الضغوط الغربية، قد تتجه موسكو وبكين لتعميق تحالفهما، مع استمالة نيودلهي ضمن محور اقتصادي-أمني، خصوصاً عبر منظمات مثل بريكس ومنظمة شنغهاي. -
تقاطع مصالح ظرفي
الهند، رغم تقاربها مع الصين اقتصادياً، لا تزال تتحفظ على النفوذ الصيني، وتحرص على إبقاء خطوط تواصل مع واشنطن والغرب. هذا يعني أن التقارب قد يبقى مصلحياً مرحلياً، لا تحالفاً دائماً. -
إعادة توزيع الأدوار
من المرجح أن تظل الهند لاعباً متأرجحاً بين المعسكرين، مستفيدة من المنافسة بين الصين والغرب لتعزيز مكانتها كقوة مستقلة. في المقابل، سيبقى التحالف الروسي–الصيني هو الأكثر رسوخاً على المدى الطويل.
الخلاصة
تصريح ترامب ليس مجرد دعاية، بل علامة على تحوّل تاريخي: الولايات المتحدة تفقد تدريجياً قدرتها على فرض الاصطفافات، بينما تنشأ جبهة أوراسية بقيادة الصين تضم روسيا والهند، وتجد صداها في أرجاء الجنوب العالمي. نحن أمام ولادة نظام عالمي متعدد الأقطاب، حيث لم يعد للهيمنة الأميركية مطلق اليد الطولى.