
الأمم الحديثة لا تنشأ من تواصل عضوي مع حضاراتها القديمة، بل من إعادة صياغة الماضي وتوظيفه كأداة سياسية. اليونان قدّمت نفسها كأحفاد الإغريق، مصر كأحفاد الفراعنة، وإيطاليا كأحفاد الرومان. في كل حالة، لم يكن هناك امتداد حضاري فعلي متصل، بل انقطاع طويل تخللته سيطرة إمبراطوريات وتحولات لغوية ودينية وثقافية. لكن مع صعود القومية في القرن التاسع عشر، أصبح استدعاء الماضي ضرورة لبناء شرعية الدولة الحديثة.
اليونان: أوروبا تصنع "أحفاد الإغريق"
حين دعمت القوى الأوروبية ثورة اليونان ضد العثمانيين (1821–1829)، لم يكن هدفها تحرير شعب مجهول فقط، بل إعادة بعث "الإغريق القدماء" الذين ربطتهم أوروبا بخط حضارتها الممتد. اختيرت أثينا عاصمة رغم صغرها، وأعيد إحياء اللغة الكلاسيكية، وتم تصوير الفلاح الأرثوذكسي كامتداد لسقراط وأفلاطون. إنها عملية سياسية بحتة أعادت صياغة التاريخ في خدمة مشروع قومي.
مصر: "أحفاد الفراعنة" في مواجهة الاستعمار
في مصر الحديثة، خاصة منذ القرن التاسع عشر، تم استدعاء الهوية الفرعونية كجزء من مشروع وطني يعزز الانفصال عن العثمانيين أولًا، ثم عن الاستعمار الأوروبي لاحقًا. رغم أن المصريين عاشوا قرونًا طويلة تحت الإغريق، الرومان، ثم العرب والمسلمين، فإن خطاب "الأحفاد" استُخدم لترسيخ شعور قومي يميز مصر عن محيطها. عبد الناصر وظّف هذه الرمزية ليجمع بين "الجذور العميقة" والحداثة الثورية.
إيطاليا: إعادة بعث روما
إيطاليا لم تتوحد كدولة قومية إلا في منتصف القرن التاسع عشر (1861). قبل ذلك كانت مقسمة بين دويلات وإمارات. مشروع الوحدة الإيطالية احتاج إلى "أسطورة جامعة"، فكان استدعاء روما الإمبراطورية هو الرابط الأقوى. موسوليني لاحقًا استثمر هذه الرمزية بأقصى درجاتها، مصورًا نفسه كوريث للقيصر، وأعاد إحياء طقوس ومعالم رومانية لشرعنة مشروعه الفاشي.
النمط المشترك
رغم اختلاف السياقات، يمكن ملاحظة خيط واحد:
- اليونان: شرعية عبر ربطها بأصل "الحضارة الغربية".
- مصر: شرعية عبر رمزية حضارة عريقة تُبرز التمايز والاستقلال.
- إيطاليا: شرعية عبر استعادة مجد الإمبراطورية لتبرير الوحدة والطموح التوسعي.
كلها ليست حقائق تاريخية ممتدة، بل سرديات سياسية أعادت إنتاج الماضي ليخدم الحاضر.
الخلاصة
الهوية القومية الحديثة لا تُبنى على التاريخ كما هو، بل على التاريخ كما يُعاد صياغته. اليونان ليست الإغريق، مصر ليست الفراعنة، وإيطاليا ليست الرومان. لكنها جميعًا صاغت لنفسها أسطورة "الأحفاد" لتثبيت الدولة القومية، بدعم داخلي أو خارجي، وفق احتياجات سياسية وإيديولوجية. هكذا يصبح الماضي مجرد مادة أولية تُشكّلها السلطة لتصنع الحاضر.