
الإرث الأمريكي وهيمنة القوة الصلبة
منذ نهاية الحرب الباردة، تعاملت واشنطن مع الشرق الأوسط باعتباره "محمية استراتيجية". فرضت حضورها عبر قواعد عسكرية، شبكات تحالفات أمنية، وربط الاقتصاد الإقليمي بالدولار النفطي. لكن هذا النموذج بدأ يتآكل بفعل سلسلة إخفاقات كبرى: الاحتلال الكارثي للعراق، الهزيمة في أفغانستان، والتراجع التدريجي لفاعلية الردع الأمريكي أمام قوى صاعدة. لقد انكشفت حدود القوة الصلبة، وأصبح استمرار الوصاية الأمريكية مرهونًا أكثر بالإكراه من القبول.
الصعود الصيني واستراتيجية الاقتصاد أولًا
في المقابل، تبني الصين حضورها بآليات مختلفة: "الحزام والطريق"، الاستثمارات في البنية التحتية والموانئ، عقود الطاقة، والتكنولوجيا الرقمية. بكين لا تعرض على دول المنطقة وصاية سياسية، بل شراكة اقتصادية بغطاء من "الاحترام المتبادل". هذا ما يمنحها قبولًا متزايدًا في عواصم ترى أن النموذج الأمريكي مرهق ومكلف. بكلمات أخرى، تمارس الصين الجبر الاقتصادي بدلًا من الجبر العسكري، وتجعل الاعتماد المتبادل أداة للنفوذ العميق.
التوازنات الإقليمية في ظل التنافس
هذا التحول لا يمر دون انعكاسات على القوى الإقليمية. فالسعودية تحاول موازنة علاقاتها بين واشنطن وبكين، فيما تسعى إيران لتعزيز موقعها ضمن محور الشرق، بينما تستثمر تركيا في اللعب على الهامش بين الطرفين. وحتى الإمارات التي طالما ارتبطت بالغرب، تنفتح أكثر على الاستثمارات الصينية. باتت العواصم الإقليمية تدرك أن الاصطفاف الأحادي لم يعد مجديًا، وأن الاستفادة القصوى تكمن في اللعب بين الضفتين.
الشرق الأوسط كساحة اختبار للنظام العالمي الجديد
اليوم، المنطقة لم تعد مجرد تابع، بل تحولت إلى مختبر لنظام عالمي متعدد الأقطاب. فالتنافس بين واشنطن وبكين يكشف حدود كل طرف: هل تستطيع أمريكا الحفاظ على زعامتها رغم الانهاك؟ وهل تنجح الصين في تحويل نفوذها الاقتصادي إلى ثقل سياسي حاسم؟ الجواب سيحدد ليس فقط مستقبل الشرق الأوسط، بل أيضًا ملامح القرن الحادي والعشرين. لكن الخطورة أن بقاء المنطقة أداة صراع، بدل أن تكون فاعلًا مستقلًا، يجعلها عرضة لاضطرابات وانقسامات دائمة.
الخاتمة
المعادلة اليوم واضحة: الشرق الأوسط أمام لحظة تاريخية فاصلة. إما أن يبقى ملعبًا لصراع الجبر السياسي بين واشنطن وبكين، أو أن ينجح في تحويل هذا التنافس إلى فرصة لصياغة سيادة جديدة، واستعادة القدرة على القرار المستقل. فالمستقبل لن يرحم من يكتفي بدور الأداة في لعبة الأمم، بينما العالم يعيد رسم خرائطه من جديد.