الذاكرة الانتقائية: لماذا تعتذر أوروبا عن الهولوكوست ولا تعتذر عن محاكم التفتيش

الاعتذار الجماعي ليس فعلًا عاطفيًا بقدر ما هو قرار سياسي تحكمه موازين القوة والمصالح. فبينما تحوّل الهولوكوست إلى محور اعتذار دائم وتكفير مستمر في أوروبا، ظلّت مأساة الأندلس ومحاكم التفتيش ملفًا مُغلقًا في الوعي الإسباني الرسمي، يُعامل كتاريخ داخلي أو كصفحة سياحية مزخرفة، لا كجريمة تستوجب اعتذارًا أو مصالحة. هذا التباين ليس صدفة، بل يعكس طبيعة الذاكرة الانتقائية التي تعيد تشكيل الماضي بما يخدم الحاضر السياسي.

الضحية السياسية: من يملك الصوت الأقوى؟

الهولوكوست استهدف اليهود في أوروبا القرن العشرين، لكن ما جعل الاعتذار ممكنًا هو وجود قوة سياسية تمثلهم: دولة إسرائيل الناشئة، وجاليات يهودية نافذة في الغرب. هؤلاء حوّلوا المأساة إلى ملف دائم في المحافل الدولية. بالمقابل، ضحايا الأندلس – مسلمون ويهود مطرودون أو متنصرون قسرًا – فقدوا كيانهم السياسي وتشتتوا، فلم يعد لهم صوت ضاغط يفرض الاعتراف أو المطالبة بالتعويض. الصمت هنا ليس نتاج النسيان وحده، بل غياب قوة تفاوضية تحوّل الذاكرة إلى قضية دولية.

الزمن وحدود التقادم الأخلاقي

قرب الهولوكوست زمنيًا جعل الشهود والأحفاد أحياء، قادرين على الشهادة والمطالبة. أما محاكم التفتيش فقد وقعت قبل خمسة قرون، ما جعلها «تاريخًا بعيدًا» سهل دفنه في خانة الماضي. الفارق الزمني يخلق حاجزًا نفسيًا وقانونيًا: ما يُرتكب في القرن العشرين يُسمى جريمة ضد الإنسانية، بينما ما ارتُكب في القرن الخامس عشر يُعامل كـ«حدث تاريخي» لا أكثر. هكذا يُختزل التطهير الثقافي في الأندلس إلى «صفحة منسية» بدل أن يُعترف به كجريمة مستمرة الأثر.

وظيفة الأمة والسردية القومية

إسبانيا بنت هويتها القومية على وحدة الدين واللغة بعد سقوط غرناطة. محاكم التفتيش صارت – رغم دمويتها – رمزًا لـ«الحماية الوطنية» ضد التفتت الداخلي. الاعتراف بأنها جريمة كان سيعني هدم الأساس الذي قامت عليه الدولة الحديثة. أما ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية فوجدت نفسها في حالة هزيمة وانكسار، فكان الاعتراف بالهولوكوست جزءًا من إعادة شرعنة الدولة، لا نفيًا لها. هنا يظهر التناقض: الاعتراف في إسبانيا يهدد السردية، بينما الاعتراف في ألمانيا أعاد بناءها.

السياحة بدل الاعتراف

إسبانيا لا تُنكر الأندلس تمامًا، لكنها تُفرغها من محتواها المأساوي. قصر الحمراء ومسجد قرطبة يُسوّقان كجواهر معمارية في الحملات السياحية، لكن لا حديث عن الطرد الجماعي ولا عن محاكم التفتيش التي أحرقت آلاف المخطوطات وأجبرت عشرات الآلاف على التنصر أو الرحيل. التراث يُعرض كديكور جمالي، لا كذاكرة دامية. بهذا الشكل تحوّلت المأساة إلى «ماركة سياحية» تجلب الزوار وتُغني الاقتصاد، لكن دون مواجهة سؤال العدالة التاريخية.

القانون الدولي ومعايير الذاكرة

الجرائم التي جرت في القرن العشرين أُدرجت تحت تصنيف «جرائم ضد الإنسانية» بقرارات دولية. لذلك صارت ملزمة بالاعتراف والتعويض. أما الجرائم القديمة فلا تقع تحت هذا التصنيف، ما يسهل التنصل منها. لكن غياب القانون لا يعني غياب المسؤولية الأخلاقية. الذاكرة الانتقائية تبرّر الصمت بالزمن أو بالسياق التاريخي، بينما الحقيقة أن الماضي لم يمت: طرد الأندلسيين لم يُمحَ من ذاكرة شعوبهم، وإن تم تجاهله في السردية الرسمية الإسبانية.

خاتمة

أوروبا تعتذر عن الهولوكوست لأنه مرتبط بتوازنات القوة والشرعية الدولية، لكنها لا تعتذر عن الأندلس لأن الضحايا بلا صوت سياسي حاضر، ولأن الاعتراف يهدد أسس الدولة القومية الإسبانية. هذا هو جوهر الذاكرة الانتقائية: تُدين ما لا يهدد سرديتك، وتتجاهل ما يُفككها. ومع ذلك، ثمة حاجة لإعادة فتح الملف، لا كاستعادة تاريخية فحسب، بل كمصالحة حقيقية مع ماضٍ لم يُصفَّ بعد. الاعتراف لا يُسقط الهيبة الوطنية؛ بل يمنحها شرعية أخلاقية، ويُحوّل التاريخ من عبء مُكبَّل إلى درسٍ في إنسانية أوسع.

+
أحدث أقدم

ويجيد بعد المقال


تنويه: هذا المقال (أو المحتوى) يقدم تحليلاً إعلامياً موضوعياً، ويخلو تماماً من أي تحريض أو دعوة للعنف، ويعكس رؤية نقدية متوازنة للأحداث، مع الالتزام التام بالأطر القانونية والمعايير المهنية.