حين يُجبر الضحية على التنازل: لماذا يُفرض السلام على الطرف الأضعف؟

منذ عقود، تكشف النزاعات العالمية قاعدة ثابتة: الضحية تُطالب دائمًا بالتنازل، بينما المحتل أو المعتدي يُمنح شرعية وغطاء سياسي. في حرب غزة يتكرر المشهد: مبادرات "وقف الحرب" تُصاغ بلغة المحتل، وتُفرض على الفلسطينيين كقدرٍ لا مفر منه. هذا النمط ليس استثناءً، بل آلية راسخة لإدامة ميزان القوة، وترويض الشعوب المقهورة تحت عباءة "السلام".

1. ميزان القوة يغلب على ميزان العدالة

النظام الدولي منذ الحرب العالمية الثانية لم يُبنَ على العدالة بقدر ما بُني على توازنات القوى. القرارات الأممية، حتى لو كانت عادلة في نصها، تُفرغ من مضمونها حين تصطدم بمصالح الدول الكبرى. لهذا تُترك الجرائم بلا عقاب، بينما يُضغط على الضحية كي يتكيّف مع "الواقع المفروض" لا مع حقوقه.

2. الضحية كحلقة الأضعف في المعادلة

الطرف الضعيف لا يملك أوراق ضغط اقتصادية أو عسكرية أو حتى إعلامية. هذا العجز يجعله أسهل في الاستضعاف، إذ يُقال له: "اقبل الشروط لتنجو". بينما الطرف القوي يفرض شروطه بالقوة أو يرفض أي مساءلة، لأنه ببساطة يملك أدوات العقاب والهيمنة، ولا يستطيع أحد أن يُجبره على التراجع.

3. الإعلام وإعادة صياغة الواقع

تعمل المنصات الإعلامية الكبرى على قلب السردية: الضحية الذي يرفض الاستسلام يُصوَّر على أنه "معطّل للسلام"، بينما المعتدي الذي يواصل التدمير يُقدَّم كطرف "مرن" و"مستعد للحلول". بهذا التلاعب، يُصاغ وعي عالمي مزيّف يبرّر الضغط على الضعفاء ويُخرج الأقوياء من دائرة المساءلة.

4. الوسطاء كقنوات ضغط لا كأدوات عدل

غالبية الوسطاء الإقليميين لا يتعاملون كأطراف محايدة، بل كناقلين للرسائل الغربية والإسرائيلية إلى الضحية. بدلاً من أن يكون دورهم حماية الحقوق، يتحولون إلى شركاء في فرض شروط الاستسلام، مبرّرين ذلك بالواقعية السياسية أو "حقن الدماء"، بينما هم في الحقيقة يحافظون على مصالحهم مع القوى الكبرى.

5. الخوف من سابقة الانتصار

القوى الدولية لا تخشى فقط من استمرار الحرب، بل تخشى من انتصار الضحية على المحتل. لو تمكّنت غزة مثلًا من فرض شروطها على إسرائيل، فستصبح هذه سابقة تُغري شعوبًا أخرى بالتجرؤ على مقاومة الهيمنة. لهذا يتم سحق أي فرصة لنجاح الضحية في الصمود، وإجباره على التراجع حتى لو امتلك شرعية قانونية وأخلاقية كاملة.

خاتمة

إن فرض "السلام" على الضحية ليس حلًا، بل إعادة إنتاج للهزيمة في صورة اتفاق. العدالة لا تتحقق حين يُقال للضعيف: "تراجع كي تنجو"، بينما يُعفى القوي من أي محاسبة. طالما ظلّت المعادلة هكذا، فإن أي "سلام" لن يكون إلا هدنة مؤقتة بانتظار جولة جديدة من العنف، لأن الجذر لم يُعالج، والظلم لم يُرفع، والضحية لم يُنصف.



ما وراء الخبر: غزة نموذجًا حيًّا

في حرب غزة الراهنة، تجلّت هذه الآلية بوضوح:

  • خطة ترامب قُدّمت كحلّ سلام، لكنها في جوهرها إعادة صياغة لشروط إسرائيل، والضغط موجّه على حماس والفلسطينيين للقبول.
  • الإدارة الانتقالية لغزة (GITA) تُسوَّق كآلية حكم، بينما هي عمليًا إقصاء للفصائل المحلية وتكريس لوصاية دولية.
  • الوسطاء الإقليميون من قطر ومصر وحتى بعض دول الخليج لم يمارسوا ضغطًا على إسرائيل لوقف العدوان أو رفع الحصار، بل ركّزوا على إقناع الطرف الفلسطيني بقبول الحلول المطروحة.

هذه ليست "تسوية" بل إعادة إنتاج لنفس المعادلة: الضحية يُطالب بالتنازل ليُقال إن السلام تحقق، بينما المحتل يخرج محصّنًا من أي مساءلة.

+
أحدث أقدم

ويجيد بعد المقال


تنويه: هذا المقال (أو المحتوى) يقدم تحليلاً إعلامياً موضوعياً، ويخلو تماماً من أي تحريض أو دعوة للعنف، ويعكس رؤية نقدية متوازنة للأحداث، مع الالتزام التام بالأطر القانونية والمعايير المهنية.