
من خطاب الإصلاح إلى صناعة الوهم
في أصلها، نشأت فكرة التنمية البشرية كجزء من مشاريع الأمم المتحدة للتنمية، متعلقة بمؤشرات الصحة والتعليم والعيش الكريم. لكن ما وصل إلى العالم العربي لم يكن هذا الجوهر، بل نسخة تجارية مُفرغة من مضمونها، اختُزلت في دورات تدريبية وورش تحفيزية. سرعان ما ظهرت "صناعة" كاملة قائمة على بيع الوهم، حيث يُوهم الفرد أنه قادر على تجاوز جميع مشاكله عبر "قوة التفكير الإيجابي" أو "برمجة عقله على النجاح"، بينما يتم تجاهل الواقع السياسي والاقتصادي الذي يكبّله.
الفرد المعزول بدل الجماعة
المفارقة الكبرى في خطاب التنمية البشرية أنه يركز على الفرد بوصفه وحدة مستقلة تمامًا، معزولة عن أي سياق اجتماعي أو سياسي. يُقال للشاب العاطل: "غيّر نفسك، أنت السبب في فشلك"، دون أي إشارة إلى السياسات الاقتصادية الفاشلة أو غياب فرص العمل. يُقال للطالب المحبط: "آمن بذاتك وستنجح"، بينما تُترك الأسئلة الحقيقية حول ضعف المناهج التعليمية أو غياب العدالة الاجتماعية. بهذا المعنى، تصبح التنمية البشرية أداة لتفريغ الوعي من أي حس جماعي، وتحويل الفرد إلى مشروع مغلق على ذاته، مشغول بترميم نفسه بدل مساءلة النظام الذي يعيش فيه.
التنمية كأداة لتطبيع الفشل
أخطر ما في خطاب التنمية البشرية أنه لا يكتفي بإغفال البنية الاجتماعية والسياسية، بل يُستخدم أحيانًا كأداة لتبرير الفشل الرسمي. فبدلاً من أن تتحمل الدولة مسؤولية تراجع الخدمات وتدهور التعليم وانتشار البطالة، يُلقى باللوم على الأفراد: "أنتم لا تطورون أنفسكم"، "أنتم لا تملكون المرونة الكافية". هذا التحويل للمسؤولية يخلق حالة من التطبيع مع الأزمات، حيث يتصالح الناس مع واقعهم البائس لأن المشكلة "داخلهم" لا "خارجهم". النتيجة: انكفاء جماعي على الذات، وتراجع المطالبة بالتغيير البنيوي.
سوق الكوتشينغ وبيع السعادة
لا يمكن تجاهل أن التنمية البشرية تحولت إلى سوق ضخمة في العالم العربي. المدربون والـ"كوتشز" يقدمون أنفسهم بوصفهم مرشدين إلى السعادة والنجاح، عبر برامج غالية الثمن تَعِد بتغيير الحياة بين ليلة وضحاها. لكن معظم هذه البرامج تقوم على شعارات مكررة، بلا أساس علمي رصين، وتُبنى على خطاب عاطفي يحرّك الانفعالات مؤقتًا ثم يترك الفرد أكثر إحباطًا عند عودته إلى واقعه. لقد أصبحت "السعادة" سلعة تُباع وتُشترى، وصار التحفيز نوعًا من المخدر النفسي الذي يؤجل مواجهة الحقائق القاسية.
التنمية البشرية مقابل التنمية الحقيقية
الخلط المقصود بين التنمية البشرية والتنمية الإنسانية الحقيقية خطير جدًا. فالتنمية بالمعنى الجاد تعني تمكين الإنسان عبر التعليم النوعي، والرعاية الصحية، وتوفير بيئة عادلة للإبداع والعمل. أما "التنمية البشرية" بنسختها التجارية فهي أشبه بأداة ضبط اجتماعي، تُستخدم لإبقاء الأفراد منشغلين بتحسين ذواتهم الصغيرة بدل التفكير في تحسين أوضاعهم الجماعية. الأولى تعطي الإنسان أدوات للتحرر، أما الثانية فتعطيه أدوات للتكيف مع واقعه القائم.
البعد السياسي المستتر
الخطاب السائد حول التنمية البشرية ليس بريئًا من السياسة. حين تهيمن فكرة أن الفرد هو المسؤول عن كل شيء، تتراجع فكرة المجتمع والدولة والعدالة. هذا يخدم الأنظمة التي تريد مواطنًا مطيعًا، منشغلًا بذاته، بعيدًا عن التفكير في الإصلاح السياسي أو المحاسبة أو حقوقه العامة. التنمية البشرية، بهذا الشكل، ليست مجرد أداة "إيجابية"، بل مشروع أيديولوجي يخدم تثبيت البنى القائمة ويعيد إنتاجها.
المواطن الموهوم بالحرية
خطاب التنمية البشرية يوهم الأفراد بأنهم "أحرار" لأنهم يستطيعون تطوير أنفسهم. لكنه في الحقيقة يقيدهم أكثر؛ فهو يفرغ الحرية من مضمونها السياسي والاجتماعي، ويختزلها في خيارات فردية معزولة: كيف تفكر، كيف تدير وقتك، كيف تتحدث أمام الناس. هذه حرية مشوّهة، لأنها لا تلامس جوهر الحرية: القدرة على المشاركة في صنع القرار، ومساءلة السلطة، وتغيير الواقع الجمعي.
هل هناك بديل؟
النقد لا يعني رفض أي جهد لتطوير الإنسان. بل العكس، المطلوب هو استعادة مفهوم التنمية بمعناه الأصيل: بناء الإنسان كجزء من مشروع جماعي، لا مجرد فرد معزول. التنمية الحقيقية تبدأ بإصلاح التعليم، وتوسيع قاعدة المشاركة، وتوفير الحقوق الأساسية، ثم تعزيز قدرات الأفراد داخل هذا الإطار. أي محاولة لتجاوز البنية الجماعية عبر التركيز على "الفرد المعجزة" محكوم عليها بالفشل، لأنها تتناقض مع واقع المجتمعات العربية المثقلة بالأزمات البنيوية.
خاتمة
التنمية البشرية في العالم العربي ليست مجرد "مبالغة" في الوعود، بل مشروع يعيد صياغة علاقة الإنسان بنفسه ومجتمعه. إنها أداة لإعادة إنتاج النظام القائم، عبر تسكين الأزمات وتفتيت الوعي الجماعي. التفكيك النقدي لهذا الخطاب يكشف أنه يرسخ الاغتراب بدل تجاوزه، ويعمّق الفردانية بدل بناء المواطنة. إذا أردنا فعلًا تنمية بشرية، فعلينا أن نحررها من السوق ومن الخطاب المفرغ، وأن نعيدها إلى معناها الأصلي: تنمية الإنسان ككائن واعٍ وفاعل في جماعته، لا مجرد زبون جديد في سوق الوهم.