
من المواطن إلى الزبون
في الماضي، كان مفهوم المواطنة يعني المشاركة في الشأن العام، وتحمل المسؤولية تجاه المجتمع والدولة، حيث يُنظر للفرد كجزء من نسيج جماعي له حقوق وواجبات. اليوم، مع تمدد النيوليبرالية وهيمنة السوق، جرى تفكيك هذا الدور لصالح صورة جديدة للفرد: الزبون. الزبون لا يُسأل عن موقفه السياسي أو الاجتماعي، بل عن قدرته على الدفع. بهذا التحول، لم تعد قيمة الإنسان تُستمد من وعيه أو مشاركته في قضايا مصيرية، بل من حجم استهلاكه وقدرته على الاندماج في آلية السوق.
الإعلانات وصناعة الرغبة
لم يعد الإعلان مجرد وسيلة تعريف بسلعة، بل أصبح صناعة قائمة بذاتها، هدفها إنتاج رغبات لا نهاية لها. الإعلام، بدعم رأس المال، نجح في إقناع الإنسان أن سعادته مرهونة باقتناء الهاتف الأحدث، والسيارة الأجمل، والملابس الأغلى. هذا التضليل يصنع وعياً زائفاً يجعل الإنسان يلهث وراء الوهم، معتقداً أن شراء سلعة جديدة سيمنحه مكانة اجتماعية أو اعترافاً رمزياً. وهكذا يتشكل سجن جديد غير مرئي، حيث يصبح الإنسان عبداً لرغباته المُصنّعة سلفاً.
النيوليبرالية وتفكيك الجماعة
لم يكن الاستهلاك مجرد خيار فردي، بل استراتيجية سياسية. النيوليبرالية، منذ ثمانينيات القرن الماضي، أعادت هندسة المجتمعات عبر خصخصة كل شيء، من الخدمات الأساسية إلى القيم. مع هذا التحول، ضعف التضامن الاجتماعي، وحلّت الفردانية مكان الجماعة. المواطن الذي كان يرى نفسه جزءاً من كيان أكبر، بات ينظر إلى نفسه ككيان مستقل، يبحث عن لذته الخاصة عبر الشراء والاستهلاك، لا عبر المشاركة في مشروع وطني أو اجتماعي.
الوعي الزائف
من أخطر ما أنتجته ثقافة الاستهلاك هو الوهم بأن الفرد حرّ. السوق يوحي للإنسان أنه يملك حرية الاختيار: مئات الماركات، آلاف المنتجات، ملايين الإعلانات، لكنها كلها تدور في فلك واحد: إخضاعه لمنطق الاستهلاك. إنها حرية وهمية، أشبه بحرية السجين في اختيار لون زنزانته. هذا الوعي الزائف يفرغ الحرية من معناها الحقيقي، ويجعل الإنسان يتماهى مع قيوده، بل ويدافع عنها باعتبارها نمط حياة عصري.
الآثار الاجتماعية والسياسية
ثقافة الاستهلاك لم تغيّر فقط علاقة الإنسان بالسلعة، بل أعادت صياغة البنية الاجتماعية والسياسية.
- تفكك الروابط الاجتماعية: الاستهلاك يعزز الفردانية، ويجعل العلاقات محكومة بالقدرة الشرائية، لا بالانتماء أو القيم.
 - إضعاف المواطنة: حين يصبح الفرد زبوناً، يتراجع دوره السياسي، وتُفرغ المشاركة العامة من مضمونها. لم يعد النقاش حول العدالة أو الحقوق، بل حول الأسعار والعروض.
 - اختزال الهوية: تحوّل الانتماء من فكرة الأمة أو الجماعة إلى الانتماء لماركة تجارية. هوية مفرغة من التاريخ، قائمة فقط على الاستهلاك اللحظي.
 - هشاشة المجتمعات: مجتمع قائم على الاستهلاك يصبح هشاً أمام الأزمات الاقتصادية؛ فالأفراد لا يملكون روابط حقيقية تحميهم حين ينهار السوق.
 
المواطن المفقود
بهذه الآليات، صارت الدولة الحديثة تتعامل مع مواطنيها بوصفهم “عملاء” أو “زبائن” أكثر من كونهم شركاء في الحكم. حتى الخطاب الرسمي تغيّر: المواطن يُخاطب بصفته “مستهلكاً للخدمات الحكومية”، وكأن العلاقة بينه وبين الدولة ليست علاقة حقوق وواجبات، بل صفقة تجارية. هذا الانزلاق يعيد تعريف السياسة ذاتها، فتصبح “إدارة السوق” لا “إدارة المجتمع”.
هل من مخرج؟
قد يبدو المشهد قاتماً، لكن إدراك هذه الحقيقة هو الخطوة الأولى نحو التحرر منها. المطلوب ليس رفض الاستهلاك بالمطلق، بل إعادة تسييسه. بمعنى: وعي أن الاستهلاك ليس خياراً فردياً بريئاً، بل هو فعل سياسي يحدد مكانة الإنسان وعلاقته بالمجتمع. العودة لفكرة المواطنة تعني إعادة الاعتبار للقيمة الإنسانية بما هي وعي ومسؤولية، لا بما هي بطاقة ائتمان.
خاتمة
ثقافة الاستهلاك ليست مجرد ظاهرة اقتصادية، بل هي مشروع شامل لإعادة صياغة الإنسان والمجتمع. إنها محاولة لتحويل المواطن إلى زبون، والهوية إلى سلعة، والمستقبل إلى عرض موسمي. مواجهة هذه الثقافة لا تتم عبر الوعظ الأخلاقي أو الحنين للماضي، بل عبر تفكيك آلياتها، وكشف أوهامها، وإعادة الاعتبار لمفهوم المواطنة الحقيقية. إن الإنسان ليس ما يملك، بل ما يدرك ويعي ويفعل.