القوانين الدولية الإنتقائية: حين سقطت الأخلاق الغربية في غزة

كيف تحولت الشرعية الدولية إلى أداة انتقائية لتبرير القتل

لم تكن حرب غزة الأخيرة مجرد مواجهة عسكرية بين إسرائيل والمقاومة، بل كانت اختبارًا أخلاقيًا شاملاً للنظام الغربي بأسره.
فحين سالت دماء المدنيين في شوارع غزة، لم يكن الموقف الغربي حياديًا أو متردّدًا كما في الحروب السابقة، بل كان موقفًا منحازًا علنًا، يبرّر القصف، ويجرّم الضحية، ويدوس على كل ما تبقّى من قيم "الشرعية الدولية" التي طالما قدّمها الغرب كمرجع للإنسانية.
لقد سقط القناع، وبان أن القانون في يد الغرب ليس ميزان عدالة، بل عصا سياسية تُرفع حين يكون الخصم ضعيفًا، وتُخفى حين يكون الجاني حليفًا.

1. إسرائيل ليست استثناءً.. بل النموذج المثالي للقوة الغربية

من الخطأ النظر إلى إسرائيل كحالة فريدة تحظى بمعاملة تفضيلية من الغرب.
إسرائيل هي النسخة المحلية من المشروع الغربي ذاته، نسخة مزروعة في قلب الشرق الأوسط لتؤدي الوظيفة نفسها التي يؤديها الغرب عالميًا: السيطرة باسم "التحضّر" وتدمير المخالف باسم "الدفاع عن النفس".
فمنذ نشأتها، لم تكن إسرائيل دولة عادية، بل وكيلاً استراتيجيًا في هندسة الشرق الأوسط.
لذلك لا يُعاملها الغرب كحليف يمكن مساءلته، بل كامتداد عضوي لا يُمسّ.
وحين تقتل إسرائيل آلاف المدنيين في غزة، لا يرى الغرب في ذلك انتهاكًا، بل تجسيدًا ناجحًا لفلسفة الردع التي بناها هو نفسه منذ فيتنام إلى العراق.

2. القيم الغربية: انتقائية تتبدل حسب موقع الجريمة

العدالة الغربية تُوزَّع وفق موقع الجاني، لا وفق الفعل ذاته.
حين تغزو روسيا أو الصين، يتحرك القانون الدولي كجدار صلب، وتُستدعى قرارات مجلس الأمن والتهديدات بالمحاكمات.
لكن حين تقصف إسرائيل أطفال غزة، يتحول الخطاب الغربي إلى تبرير بارد: “إسرائيل تدافع عن نفسها”، “حماس تختبئ بين المدنيين”، “الحرب مؤسفة لكنها ضرورية”.
هذه ليست ازدواجية ساذجة، بل نظام قيمي مرن صُمم ليحمي القوة لا الحق.
الشرعية الدولية هنا ليست معيارًا أخلاقيًا، بل رخصة تُمنح لمن يخدم المنظومة الغربية، وتُسحب ممن يعارضها.

3. حرب غزة 2025: لحظة الانكشاف الكامل

في حرب غزة 2025، لم يكتف الغرب بالصمت، بل شارك في صناعة الخطاب المبرِّر للعدوان.
من واشنطن إلى برلين إلى لندن، كانت الرواية واحدة:

“حماس إرهابية، وإسرائيل تمارس حقها المشروع في الدفاع عن النفس.”
هكذا اختُزلت مأساة شعب تحت القصف إلى معادلة قانونية مزيّفة.
وفي الوقت ذاته، جرى تجريم الضحية إعلاميًا، فتمت ملاحقة الأصوات المتعاطفة مع غزة، واتهامها بمعاداة السامية، وإغلاق الحسابات والمظاهرات، حتى في الجامعات الغربية نفسها.
بهذا المعنى، لم تكن الحرب فقط في غزة، بل في الوعي الإنساني العالمي، حيث خسر الغرب آخر أوراقه الأخلاقية أمام الرأي العام.

4. من العدالة إلى الهيمنة: الشرعية الدولية بعد سقوطها

بعد الحرب العالمية الثانية، بشّر الغرب بنظام عالمي يقوم على القانون وحقوق الإنسان، ليُبرّر قيادته للعالم.
لكن ما حدث في غزة كشف أن هذا النظام لم يكن عالميًا قط، بل هيكلاً استعماريًا ناعماً يطبّق القوانين حين تضمن التفوق الغربي، ويتجاهلها حين تهدده.
حين طالبت بعض الدول بمحاكمة قادة إسرائيل في المحكمة الجنائية الدولية،
ردّت واشنطن بتهديد المحكمة نفسها، متوعدة بقطع التمويل أو العقوبات على قضاتها.
هنا ظهر جوهر الحقيقة:

القانون الدولي ليس سلطة فوق الدول، بل سلاح في يد من صنعه.

لقد تحوّل الغرب من "راعٍ للشرعية" إلى عدوّ صريح لها حين اقتربت من مصالحه.

5. حماس والرهان المعاكس: لا عدالة من الغرب بل فضيحة له

حماس لم تراهن على إنصاف القانون الدولي، بل على فضح عجزه وانحيازه.
كل جريمة جديدة ترتكبها إسرائيل بصمتٍ غربي هي رصاصة في صدر مصداقية النظام الليبرالي نفسه.
الصور الخارجة من غزة لم تعد تُحرج إسرائيل وحدها، بل تعرّي الغرب أمام شعوبه.
فالملايين الذين تظاهروا في نيويورك وباريس ولندن لم يخرجوا تضامنًا مع فلسطين فحسب، بل رفضًا لأن يُحكم العالم بمعايير الكذب الأخلاقي.
وهذا هو التحول التاريخي الأخطر:
بدأ الغرب الرسمي يفقد احتكاره لتعريف الخير والشر،
وبدأت أخلاق الشعوب تحل محل أخلاق الإمبراطوريات.

6. إسرائيل كعبء أخلاقي على الغرب نفسه

في السابق، كانت إسرائيل ورقة رابحة للغرب في الشرق الأوسط.
اليوم، أصبحت عبئًا أخلاقيًا يفضح تهافت النموذج الغربي كله.
كل مرة تدافع فيها أوروبا عن جرائم تل أبيب،
تخسر مزيدًا من مصداقيتها أمام شعوبها وأمام الجنوب العالمي الذي يراقب بصمت.
لقد تحوّلت القضية الفلسطينية من مأساة محلية إلى مِرآة كونية تعكس سقوط الغرب في تناقضاته:
يدّعي الحرية ويصمت على الإبادة،
يتحدث عن القانون وهو يموّل من يخرقه.

7. الخلاصة: موت الشرعية وبداية وعي جديد

الغرب لا يدعم إسرائيل رغم جرائمها، بل لأن تلك الجرائم تخدم منظومته.
لكن هذا الانحياز العلني جعل سقوطه الأخلاقي كاملاً أمام الرأي العام العالمي.
لقد انكشف المشروع الغربي في صورته الأصلية:
نظام قوة بلا قيم، يشرعن القتل ما دام يخدم مصالحه.
أما فلسطين، فقد أصبحت اليوم رمزًا لسقوط القانون الدولي نفسه، لا كفشلٍ قانوني، بل كفضيحة حضارية.
إن العالم لا يعيش فقط نهاية حرب في غزة،
بل نهاية وهمٍ استمر قرنًا بأن الغرب يمثل الضمير الإنساني.

+
أحدث أقدم

ويجيد بعد المقال


تنويه: هذا المقال (أو المحتوى) يقدم تحليلاً إعلامياً موضوعياً، ويخلو تماماً من أي تحريض أو دعوة للعنف، ويعكس رؤية نقدية متوازنة للأحداث، مع الالتزام التام بالأطر القانونية والمعايير المهنية.