إسرائيل: كيف يعيد القصف الجوي تشكيل ساحة الصراع - ومن يستفيد من استمرار النزاع؟

 

إذا اختارت إسرائيل تحويل الصراع إلى نمط «قصف جوي وإدارة عن بُعد» بدل اجتياح بري شامل، فستُعيد تعريف قواعد اللعب: لن تختفِ الحرب، لكنها ستنتقل إلى نمط طويل الأمد من الاستنزاف غير المعلن. هذا التحوّل لا يهمّ فقط الفصائل في غزة أو الأمن الداخلي الإسرائيلي، بل يفتح فسحات استراتيجية لدول إقليمية وكبرى تسعى لاستغلال الانشغال الغربي وتحويل الأزمة إلى ربح جيوـسياسي.

1. لماذا تجعل «سماء مستمرة» التدخل الإقليمي أكثر احتمالاً؟

قصف جوي مطوّل يُبقي غزة في حالة تدهور دائم—اقتصادياً وإنسانياً وسياسياً—دون حل سريع. هذا الوضع يولّد ثلاثة آثار متشابكة:

  1. تحوّل الحرب إلى عبء إنساني متكرر يجذب تضامن شعبي واسع داخل المشرق والعالم الإسلامي، ما يخلّف ضغوطاً شعبية على حكومات إقليمية للمبادرة عملياً أو سياسياً؛

  2. فرصة لجهات إقليمية لاختبار الردع: فالمواجهات الحدودية المحدودة أو ضربات رمزية (بحرية أو صاروخية) تصبح أدوات مكلفة لكنها ممكنة لفرض قواعد اشتباك جديدة؛

  3. إضعاف غطاء واشنطن السياسي والدبلوماسي، لأن استمرار القصف يكشف تناقضات الغرب ويقوّض قدرته على ضبط تصعيد إقليمي.

بمعنى عملي: السماء وحدها لا تمنع تصعيداً إقليمياً؛ بل ربما تجعل الصراع أكثر جذباً لتدخلات دقيقة ومحدودة، لا بالضرورة شاملة. (مصادر تحليلية عن كيف تربط الأزمات الإقليمية اهتمام واشنطن بملفات أخرى).

2. اللاعبون الإقليميون: من يمكنه أن يتحرك؟ وكيف؟

  • حزب الله (لبنان): هو الفاعل الأبرز القادر على فتح جبهة تُشتّت قدرات إسرائيل. تدخله المحتمل سيكون حسابياً — ضربات صاروخية، هجومات محدودة عبر الحدود، أو إطلاق طائرات مسيرة لاختبار الدفاعات. هدفه ليس احتلالاً بل ردعاً سياسياً وإعادة توازن النفوذ. ومع ذلك، فإن الحزب مقيد بحسابه الداخلي وخشيته من حرب شاملة على لبنان. 

  • اليمن (أنصار الله): قد يُستغل الفضاء البحري (الحد من الملاحة أو استهداف سفن مرتبطة بإسرائيل) كضغط اقتصادي وسياسي. هذا يخلق «تكلفة اقتصادية» إضافية على إسرائيل وحلفائها. 

  • إيران: لن تدخل مباشرة في غزة، لكنها تموّل وتوجّه وتُبقي ورقة المحور حية عبر دعم حلفائها؛ هدفها الاستراتيجي بديهي: استنزاف العدو وتقليص قدرة الغرب على التدخل الموحد. 

  • دول أخرى (سوريا، العراق، تركيا، قطر ومصر): كلٌ له أدواته — دمشق وبغداد عبر فصائل مسلحة، أنقرة ودوحة عبر دبلوماسية ووساطة وشرعية إعلامية، والقاهرة عبر ضغوط حدودية وإنسانية تحكمها حسابات الاستقرار. هذه التحركات قد لا تحدث «حرباً إقليمية» لكنّها تراكمية وتُصعّب إدارة الأمن الإسرائيلي. 

3. كيف تستغل روسيا استمرار النزاع؟

أ. تشتيت الاهتمام والمصادر الأمريكية: حرب مطوّلة في الشرق الأوسط تُربك ميزان الانتباه الأمريكي، وتُجبر واشنطن على إعادة توجيه موارد دبلوماسية وربما عسكرية، مما يمنح روسيا مساحة أكبر للتحرك في أوكرانيا أو إفريقيا. التحليلات الروسية نفسها استخدمت هذه الحجة: تشتيت الانتباه الغربي يُسهل أهداف موسكو. 

ب. ربح اقتصادي طفيف عبر أسعار الطاقة: أي توتر ممتد في منطقة متصلة بأسواق الطاقة يمكن أن يرفع أسعار النفط والغاز، وهو مكسب نسبي لموسكو في ظل قيود صادراتها.
ج. نافذة دبلوماسية: روسيا قد تُقدّم نفسها كوسيط بديل أو كضامن لاستقرار إقليمي يصدّ أمريكا، ما يعزّز مكانتها بين دول الجنوب. هذه لعبة استغلال أزمات الطرف الثالث لتعزيز النفوذ. 

4. كيف تستفيد الصين؟

أ. رصّ صفوف نفوذها الاقتصادي والدبلوماسي: بكين تستثمر في سردية «حياد متعاطف مع الجنوب» وتوسّع شراكات اقتصادية (BRI، صفقات طاقة وبنى تحتية) مع دولٍ قد تبتعد عن الغرب بسبب القرارات السياسية المتعلقة بإسرائيل. هذا يُمكّن الصين من تعبئة النفوذ الاقتصادي ليواكب الفراغ الدبلوماسي. 

ب. اختبار قدرة واشنطن على الالتزام العالمي: استمرار الأزمة يُضعف قدرة واشنطن على فرض قيادة أحادية، ما يمنح الصين هامش مناورة أكبر في ملفات أخرى (تايوان، أفريقيا، بحر الصين الجنوبي).
ج. استغلال الرواية الإعلامية لصالحها: الصين تُروّج لنفسها كبديل نافع وعملي، تقدّم مساعدات اقتصادية وتبنى علاقات «غير أخلاقية» ظاهرياً لكن فعّالة عملياً في الأسواق النامية. 

5. حدود الاستفادة: لماذا لا تريد روسيا أو الصين حرباً شاملة؟

الربح الاستراتيجي من حالة «استنزاف طويل» يظل محدوداً ومطوّقاً بثلاث قيود:

  1. خطر الانزلاق إلى مواجهة مباشرة مع الولايات المتحدة — كِلا العاصمتين حريصتان على تجنّب تصعيد عالمي؛

  2. المصالح الاقتصادية مع إسرائيل وشركاء غربيين؛ فخسارة هذه القنوات ليست مطلقة المصلحة؛

  3. التكلفة الإقليمية والانعكاسات الأمنية — حرب إقليمية شاملة تُعرّض خطوط الإمداد والأسواق العالمية للمخاطر، وما لم تكن المكاسب مضمونة، فلن تدخل موسكو وبكين في لعب نار مفتوحة.

6. سيناريوهات متوقعة على المدى المتوسط

  • السيناريو الأرجح (مؤذٍ لكن محدود): استمرار قصف جوي إسرائيلي مع تدخلات إقليمية محدودة (ردود حزب الله، هجمات بحرية يمنية، عمليات فصائل عراقية/سورية)، واستفادة روسية وصينية دبلوماسياً واقتصادياً من حالة التشظّي الغربي. 

  • السيناريو المتوسط الخطر: تفاعلات إقليمية متسارعة تقرب من مواجهة أكبر إذا أخطأت قواعد الاشتباك أو تجاهلت واشنطن التوازنات المحلية.

  • السيناريو الأقل احتمالاً لكنه الأكثر تدميراً: انزلاق إلى مواجهة إقليمية شاملة تُكلف الجميع كثيراً — وهو ما يسعى الجميع لتجنبه. 

خاتمة: استمرار الحرب نفعٌ دبلوماسي وليس نصرًا استراتيجيًا

روسيا والصين لا «تفوزان» بمجزرة إنسانية أو باستمرار القصف، لكنهما قد تجنيان أرباحًا استراتيجية رمزية: إضعاف نفوذ واشنطن، توسيع قواعد النفوذ الاقتصادي والدبلوماسي، واحتلال مساحة سياسية في العالم الثالث. بالمقابل، هذه «فوائد» محدودة ومعقّدة ولا تعوّض تكلفة عدم الاستقرار الإقليمي الطويل.
من زاوية المقاومة، من المهم إدراك أن التحوّل إلى قصف جوي مستمر لا يعني نهاية المقاومة إلا إذا نجح الدعم الدولي والإقليمي في منع تراكم كلفة الصمود. وهنا يلتقي المصير المحلي مع لعبة كبرى: من يملأ الفراغ السياسي والدبلوماسي سيصوغ ملامح النظام الدولي القادم.


    المصادر المختصرة (أهم المراجع التي استندت إليها)

    تحليلات CFR عن دور الصين في الشرق الأوسط (2025). (Council on Foreign Relations)
    تقارير RussiaMatters وتحليلات روسية عن ربط الأزمة في الشرق الأوسط باستراتيجية موسكو حول أوكرانيا. (Russia Matters)
    تقييمات IISS / ISS حول مخاطر التوسع الإقليمي وإمكانيات تدخل حزب الله وإيران. (EU Institute for Security Studies)
    دراسات عن كيفية تأثير التركيز الغربي على أوكرانيا وغزه وتشتت الموارد (Vision of Humanity، تقارير مراكز أبحاث). (Vision of Humanity)

    +
    أحدث أقدم

    ويجيد بعد المقال


    تنويه: هذا المقال (أو المحتوى) يقدم تحليلاً إعلامياً موضوعياً، ويخلو تماماً من أي تحريض أو دعوة للعنف، ويعكس رؤية نقدية متوازنة للأحداث، مع الالتزام التام بالأطر القانونية والمعايير المهنية.