اقتصاد الوهم: وهم الاقتصاد الأخضر: حين تتحوّل الاستدامة إلى مشروعٍ ربحيّ

حين يطلّ مصطلح “الاقتصاد الأخضر” في الخطاب الدولي، يبدو كأنه الحل السحري لإنقاذ الكوكب من الخراب. لكنّ هذا البريق البيئي سرعان ما يخفت عندما نكتشف أن أغلب ما يُسوَّق باسم “الاستدامة” ليس سوى إعادة تغليف للنظام الاقتصادي نفسه، بلغةٍ خضراء تُخفي وراءها نفس منطق الربح والاستهلاك والتفاوت. تحوّلت حماية البيئة من مسؤولية أخلاقية إلى فرصةٍ مالية، ومن قضية إنسانية إلى سوقٍ جديدة تُدار بعقلية “من سيدفع أكثر ليبدو أنظف”.

الاستدامة كعلامة تجارية

منذ أن تبنّت الشركات الكبرى شعار “صديق للبيئة”، صار اللون الأخضر أكثر ربحًا من الذهب. تُنتَج ملايين الزجاجات البلاستيكية المعاد تدويرها لتُباع بأسعار أعلى من العادية، وتُفرض ضرائب “كربونية” باسم حماية المناخ بينما لا تتراجع انبعاثات الشركات الكبرى فعليًا. لقد نجحت الرأسمالية في تحويل الندم الإنساني إلى نموذجٍ تسويقيّ جديد، يبيعنا الغفران البيئي كما تُباع الكفارات الدينية في العصور الوسطى.

التحايل البيئي في السياسات الدولية

تستخدم الدول الغنية ملف البيئة كسلاح تفاوضي جديد. تُقنّن الإنتاج الصناعي في الجنوب العالمي بحجة الحد من الانبعاثات، لكنها في الوقت نفسه تنقل مصانعها الملوِّثة إلى تلك البلدان نفسها، تاركةً الفقر هناك والتقارير النظيفة في عواصمها. إن “الاقتصاد الأخضر” ليس مشروعًا لإصلاح البيئة بقدر ما هو وسيلة لإعادة هندسة السيطرة الاقتصادية تحت لافتةٍ أخلاقية جديدة.

الوعي الأخضر الزائف

ساهم الإعلام بدوره في صناعة صورة مثالية للمستهلك “المسؤول” الذي يشتري منتجات مستدامة ويشعر أنه يشارك في إنقاذ الكوكب، دون أن يُسائل أصل المشكلة: الإنتاج المفرط وأنماط الاستهلاك اللامحدود. وهكذا تحوّل الوعي البيئي من نقدٍ للبنية الاقتصادية إلى إكسسوارٍ اجتماعي يوحي بالتحضّر، بينما تُنتج نفس المصانع نفس النفايات ولكن بعبواتٍ ذات لونٍ جديد.

الرسالة

الاقتصاد الأخضر، في كثير من حالاته، ليس اقتصادًا “أنظف” بل خطابًا “أجمل”. ما لم يُغيَّر منطق الربح والاستهلاك نفسه، ستبقى الاستدامة مجرّد واجهة تجميلية لنظامٍ لا يعرف من الحياة سوى ما يمكن بيعه منها.


خاتمة سلسلة "اقتصاد الوهم"

لقد كشفَت هذه السلسلة كيف تحوّل الاقتصاد المعاصر إلى أكبر مسرحٍ للوهم الإنساني. فمن وهم الثروة إلى وهم النمو، ومن التنمية البشرية إلى الاقتصاد الأخضر، يتكرّر المشهد ذاته: شعارات براقة تُخفي منظومة واحدة قائمة على الاستهلاك والتفاوت وإعادة إنتاج العجز الإنساني في ثوبٍ جديد.
إنّ المشكلة ليست في “الاقتصاد” بحدّ ذاته، بل في اللغة التي تُقدَّم بها مفاهيمه، إذ تُحوَّل الأرقام إلى رموزٍ أخلاقية، والفقر إلى عيبٍ فردي، والثراء إلى دليل كفاءة، بينما تختفي وراء ذلك شبكة معقّدة من المصالح والمضاربات.
“اقتصاد الوهم” ليس مجرد نقد للمال، بل تفكيك للمعنى الذي يُعطى له. فحين يُستبدل الإنسان بالمؤشر، والقيمة بالربح، يصبح العالم أكثر خضرة على الورق، وأكثر تصحّرًا في روحه.

سلسلة: اقتصاد الوهم: كشف آليات الوعي الاقتصادي الزائف

+
أحدث أقدم

ويجيد بعد المقال


تنويه: هذا المقال (أو المحتوى) يقدم تحليلاً إعلامياً موضوعياً، ويخلو تماماً من أي تحريض أو دعوة للعنف، ويعكس رؤية نقدية متوازنة للأحداث، مع الالتزام التام بالأطر القانونية والمعايير المهنية.