
ذاكرة الندم كهوية سياسية
بعد الحرب، لم تكن ألمانيا تسعى فقط إلى الاعتذار عن جريمة، بل إلى إعادة بناء ذاتها على أساس أخلاقي يبرر عودتها إلى العالم المتحضر. وهكذا تحولت "الهولوكوست" إلى حجر الزاوية في هويتها السياسية والثقافية.
تعلّم الألمان أن خلاصهم من لعنة التاريخ يمر عبر الإدانة الدائمة للماضي، وأن التوبة المستمرة هي الضمانة لعدم تكراره. لكن هذا المسار لم يبقَ أخلاقيًا خالصًا، بل تحول مع الوقت إلى عقيدة سياسية توجّه الموقف الألماني من الشرق الأوسط والعالم.
من ضمير الضحية إلى تحالف الجلاد
حين تأسست إسرائيل، وجدت ألمانيا فيها مرآةً معكوسة لذاكرتها: الضحية القديمة التي باتت رمزًا للندم الغربي. فكان دعم إسرائيل ليس قرارًا سياسيًا فقط، بل عملية فداء رمزية.
تحوّل الشعور بالذنب من أداة للتطهر إلى التزام دائم بالدعم، أيًا كان فعل الطرف المدعوم. وبذلك انتقل الضمير الألماني من إدانة الإبادة الماضية إلى تبرير إبادةٍ جديدة، ما دام الجاني هذه المرة يحمل هوية الضحية القديمة.
إبادة بالوكالة
حين قصفت إسرائيل غزة تحت ذرائع «الدفاع عن النفس»، لم تكن ألمانيا فقط تبرر، بل تساهم فعليًا: بالأسلحة، وبالصمت الدبلوماسي، وبالشرعية الأخلاقية التي تمنحها لدولة تمارس الإبادة تحت حماية التاريخ.
بهذا المعنى، لم تتخل ألمانيا عن ماضيها، بل أعادت إنتاجه في شكلٍ معكوس — فبدل أن تكون الفاعل المباشر، أصبحت شريكًا في بنية الإبادة عبر الدعم والتبرير.
لقد تحوّل سلاح الذنب إلى رخصة قتل مؤجلة، تُستعمل حين تتطلب السياسة تكرار الجريمة باسم التكفير عنها.
ازدواجية الوعي الأخلاقي
في الخطاب الألماني الرسمي، لا يمكن المساس بـ«أمن إسرائيل» دون الوقوع في تهمة معاداة السامية، بينما يمكن تبرير قتل الآلاف من المدنيين الفلسطينيين تحت نفس المبدأ.
هذا الانفصام ليس عرضًا سياسيًا، بل مرض في البنية الأخلاقية للوعي الغربي:
إدانة الجريمة مشروطة بهوية الضحية، والضمير الإنساني يُفعّل أو يُطفأ بحسب الانتماء العرقي أو السياسي.
فالألماني الذي يجرّم إنكار الهولوكوست قد يبرر في الوقت نفسه قصف الأطفال في غزة، دون أن يشعر بالتناقض، لأن التاريخ نفسه صيغ على مقاس ضحية واحدة لا تتغير.
من أفران الغاز إلى مصانع السلاح
ما تغيّر في ألمانيا ليس المبدأ بل الوسيلة. فبدل أفران الغاز التي التهمت أجساد اليهود، خرجت من مصانعها اليوم أسلحة ذكية تمزّق أجساد الفلسطينيين.
التحوّل الصناعي لا يلغي جوهر الفعل، بل يُعيد إنتاجه بأدواتٍ أكثر حداثة وأكثر برودًا.
لقد أصبحت ألمانيا الحديثة تُمارس الإبادة من وراء الزجاج — تُدينها نظريًا وتشارك فيها عمليًا، محافظةً على وهم التفوق الأخلاقي الذي بناه الغرب بعد الحرب.

الضمير المؤمم
ما فعله النظام النازي كان نتيجة فكرةٍ مركزية: أن هناك شعوبًا أدنى تستحق الإبادة باسم "النقاء". وما تفعله ألمانيا اليوم هو استمرار لتلك الفكرة نفسها ولكن تحت لافتة «التحضر» و«الديمقراطية» و«مكافحة الإرهاب».
الفارق فقط أن الأخلاق أصبحت مؤمّمة سياسيًا: تحددها الدولة، وتوزعها على الشعوب كما توزع المساعدات، وتمنحها لمن يتوافق مع مصالحها.
هكذا أصبحت الإبادة ممكنة باسم القانون الدولي نفسه الذي تأسس على أنقاض الإبادة الأولى.
العار الذي لم يُطهَّر بعد
لم تتصالح ألمانيا مع ماضيها كما تدّعي، بل فقط حوّلته إلى أداة سياسية.
بدل مواجهة الجذر النفسي للإبادة — أي الاستعداد لتبرير القتل باسم القيم — نقلته من الداخل إلى الخارج.
ولأنها لم تتطهّر فعليًا من فكرة «القتل المشروع»، ظلّت تعيد تمثيل الجريمة نفسها في كل مرة، ولكن بثوبٍ مختلف.
خاتمة
بين إدانة الإبادة ودعمها، لم تتغيّر ألمانيا بقدر ما غيّرت شكل الإبادة نفسها.
تبدّلت الأدوات، لكن الفكرة بقيت: هناك من يملك حق الحياة، ومن يمكن محوه باسم التاريخ أو الأمن أو الحضارة.
إن مأساة ألمانيا الحديثة ليست في ماضيها النازي فقط، بل في قدرتها على إعادة إنتاج النازية بثياب إنسانية، لتصبح الذاكرة التي كان يُفترض أن تمنع الجريمة، وقودًا لجريمةٍ جديدة.