
الخروقات بوصفها سياسة لا حادثة
ما تمارسه إسرائيل اليوم ليس خرقًا عرضيًا لاتفاق هش، بل استراتيجية متعمدة لتفكيك الردع الفلسطيني دون خوض حرب شاملة. فهي تدرك أن الحرب الميدانية الكبرى تستنزفها سياسيًا واقتصاديًا، بينما الخروقات المحدودة تُبقيها في موقع السيطرة الرمزية.
القصف الموضعي أو الاغتيال المحدد لا يهدف إلى تدمير هدف عسكري بقدر ما يهدف إلى تدمير الشعور بالأمان المؤقت، وإرسال رسالة نفسية مزدوجة:
أن إسرائيل قادرة على الضرب متى شاءت، وأن الهدوء في غزة مرهون بمدى انضباط المقاومة.
هكذا يتحول وقف إطلاق النار إلى نظام وصاية ميدانية، تمارس فيه إسرائيل حق «الردع المتقطع»، لتبقي المعادلة مختلّة دائمًا لصالحها.
حماس بين ضبط النفس واستعادة الردع
في المقابل، تجد حماس نفسها أمام معضلة استراتيجية:
هل ترد مباشرة وتنسف الهدنة، فتمنح إسرائيل ذريعة لعودة القتال الشامل؟
أم تصمت، فتبدو وكأنها فقدت زمام الردع الذي جعل الاحتلال يحسب خطواته؟
الحركة في السنوات الأخيرة طورت أدوات أكثر تعقيدًا من مجرد الصواريخ؛
فهي اليوم تدير المعركة على مستويات متعددة: الإعلامية والسياسية والميدانية السرية.
لذلك، من المرجح أن تأتي ردودها في شكل عمليات محدودة غير معلنة، أو عبر مجموعات غير مركزية تنفذ “رسائل ميدانية” دون أن تُسجَّل رسميًا كخرق للهدنة.
بهذا الأسلوب، تحافظ المقاومة على توازن دقيق بين الصمت والرد، وتبقي الاحتلال في حالة شك دائم حول من يضبط الميدان.
الهدنة كآلية لإدارة الصورة الدولية
تدرك إسرائيل أن صورتها أمام العالم تآكلت بعد مشاهد الدمار والجرائم التي وثقتها وسائل الإعلام.
ولذلك، تستخدم الهدنة كغطاء “أخلاقي” لتستعيد شرعية شكلية أمام الغرب، مع إبقاء آلة القتل في وضع الاستعداد.
وحين تقع خروقات، تُسوَّق باعتبارها «ردًا على تهديد أمني» أو «عملاً استباقيًا»، في مشهد دعائي يُعيد تعريف المعتدي كضحية.
لكن الوعي الدولي بدأ يتحول تدريجيًا: فكل خرق جديد يكشف أن إسرائيل ليست ضحية توتر، بل صاحبة مشروع مستمر لترويض غزة.
من هنا، تبدو الهدنة في حقيقتها واجهة سياسية لإدارة صورة الاحتلال، أكثر من كونها مسعىً لحفظ الأرواح.
الضامنون في اختبار المصداقية
في كل اتفاق لوقف النار، هناك أطراف إقليمية تُقدَّم كـ«ضامنين» — مصر، قطر، تركيا، وأحيانًا الولايات المتحدة.
لكن هذه الأطراف تواجه اليوم أزمة مصداقية؛ فإسرائيل لا تأبه بتعهداتها أمامهم، وتستمر بالخروقات دون كلفة سياسية حقيقية.
إذا تكرّر هذا المشهد، ستدرك حماس أن الضمانات لا قيمة لها عمليًا، وأن الردع الذاتي هو الضامن الوحيد.
وذلك سيعني تغيّرًا تدريجيًا في قواعد اللعبة، حيث قد تبدأ المقاومة في إعادة تعريف علاقتها بالوسطاء، وربما السعي نحو صيغة ردع مستقلّة لا تمر عبر العواصم.
معركة الوعي: من الرد العسكري إلى الرد الرمزي
حين يتحول القصف إلى لغة، يصبح الوعي هو الجبهة الأعمق.
إسرائيل تريد أن تزرع في وعي الفلسطيني أن “الهدوء” مرهون بطاعته، وأن أي احتجاج أو حفر أو تدريب هو خرق يستدعي العقوبة.
لكن المقاومة، بالمقابل، تسعى إلى ترسيخ معادلة مضادة: الهدوء مرهون بالكرامة، وليس بالخضوع.
لهذا السبب، يصبح كل خرق فرصة لكشف زيف الرواية الإسرائيلية أمام العالم، وكل صبر تكتيكي وسيلة لرفع القيمة السياسية للرد حين يأتي.
فالمعركة الآن ليست حول المسافة بين صاروخين، بل حول المعنى الأخلاقي للهدوء نفسه:
هل هو استسلام أم مرحلة من إعادة التوازن؟
ما بعد الهدنة: ولادة نظام ردع جديد
الهدنة الممزقة في غزة اليوم ليست مجرد نهاية معركة، بل بداية مرحلة جديدة تُرسم فيها قواعد الردع المتبادل.
إسرائيل تحاول أن تجعل الهدوء امتيازًا تمنحه متى تشاء، بينما المقاومة تعمل على جعله حقًّا لا يُشترى بالخوف.
ومع استمرار الخروقات، ستتبلور تدريجيًا معادلة جديدة:
كل ضربة بلا رد ستقود إلى رد أكبر مؤجل، وكل صمتٍ محسوب سيُفهم كتحضير لا كضعف.
حينها فقط ستدرك إسرائيل أن الهدوء الذي تفرضه بالقوة لا يعيش طويلاً،
وأن الكرامة، في غزة، ليست بندًا تفاوضيًا بل شرط وجود.
خاتمة
ما يجري اليوم ليس اختبارًا لوقف النار، بل اختبارًا لمفهوم الكرامة في زمن الهدنة.
فإسرائيل، التي اعتادت أن تُعرّف السلام بحدود أمنها، تكتشف أن الطرف الآخر لا يطلب سلامًا بلا كرامة، ولا هدوءًا بلا سيادة.
إنها هدنة مشروطة بنبضٍ لا يُقاس بالسكون، بل بالصبر الواعي والاستعداد الطويل.
ففي غزة، حتى الصمت مسلّح بالمعنى.