حين يتهم الجلاد ضحيته: إسرائيل تزعم أن حماس تقتل شعب غزة

عامين كاملين، لم تهدأ طائرات إسرائيل عن سماء غزة. البيوت تهدمت، المستشفيات تحولت إلى رماد، المدارس والملاجئ صارت قبورًا جماعية، حتى الخيام ومراكز الإيواء ومساجد الله وكنائس المسيح لم تسلم من نيران الاحتلال. وسط هذا الدمار الشامل، تخرج إسرائيل لتعلن بوجه بارد: "حماس تقتل شعب غزة."

إنه المشهد الأكثر فجاجة في التاريخ الحديث: القاتل يرفع راية الأخلاق، والمجرم يقدّم نفسه وصيًا على ضحاياه.

الخطاب المقلوب: من القاتل إلى المنقذ

في عالم الإعلام الموجه، لا يكفي أن تقتل الشعوب؛ يجب أيضًا أن تقتل الحقيقة.
فحين لا تستطيع إسرائيل تبرير آلاف الجثث والأحياء المدمّرة، تلجأ إلى السلاح الأشد فتكًا: الكلمة.
الكلمة التي تُستخدم لتبديل المواقع: الجندي المحتل يصبح منقذًا، والمقاوم الذي يدافع عن أرضه يصبح خطرًا على “شعبه”.

هذا الخطاب لا يُوجَّه إلى الفلسطينيين، فهم يعرفون جيدًا من يقتلهم، بل إلى الرأي العام الغربي الذي يحتاج دائمًا إلى تبرير أخلاقي لتمويل آلة الحرب. لذلك تردد إسرائيل مقولتها المزيفة: "نقصف لأن حماس تختبئ بين المدنيين." وكأنها تقول للعالم: نحن لا نقتل الأطفال... إنهم يقفون في المكان الخطأ.

عامان من الإبادة: لا بيوت، لا مستشفيات، لا ملاجئ

منذ بدء العدوان، غزة لم تعد مدينة تقاتل فحسب، بل تحولت إلى مسرح إعدام جماعي.
القصف لم يترك زاوية للنجاة:

  • البيوت تُهدم على ساكنيها بلا إنذار.

  • المستشفيات تُقصف لأن فيها جرحى “ينتمون للمقاومة”.

  • المساجد والكنائس تُسوى بالأرض لأن “الإرهابيين يختبئون فيها”.

  • وحتى الخيام التي احتمى بها المشردون تُستهدف لأن فيها حياة يُراد لها أن تنطفئ.

هكذا تحاول إسرائيل محو غزة من الجغرافيا والذاكرة، ثم تخرج على الإعلام لتعلن بكل وقاحة: "نحن نحارب من أجل المدنيين."
أي مدنيين هؤلاء الذين لم يبقَ لهم سقف ولا مأوى؟
أي إنسانية في قصف الجائع والعطشان والمريض تحت شعار “تجفيف منابع الإرهاب”؟

الجريمة المزدوجة: القصف والتبرير

ما تمارسه إسرائيل ليس عدوانًا عسكريًا فحسب، بل عدوانًا لغويًا وأخلاقيًا.
فهي تقتل أولًا بالصواريخ، ثم تقتل الحقيقة بالدعاية.
كل تصريح يصدر من متحدث عسكري إسرائيلي هو رصاصة أخرى في جبهة الوعي العالمي، تُطلق على الضمير الإنساني لتخديره.
حين تُبرَّر المجازر باسم "مكافحة الإرهاب"، يصبح القتل مقبولاً، وتتحول الإبادة إلى سياسة دفاعية.
تلك هي المأساة: أن يتحول الاحتلال إلى “قانون”، والمقاومة إلى “جريمة”.

مشروع التبرئة الاستباقي

إسرائيل تعلم أن ما يجري في غزة ليس معركة مؤقتة، بل اختبار أخلاقي للعالم بأسره.
ولهذا تعمل بجدّ على إعادة صياغة الرواية قبل أن تُكتب الحقيقة في كتب التاريخ.
تريد أن تخلّف وراءها قصة تقول فيها إنها "أنقذت الفلسطينيين من حماس"، تمامًا كما قال الاستعمار الأوروبي يومًا إنه "أنقذ الشعوب من تخلفها".
إنها الصيغة ذاتها، تُعاد فقط بوجه جديد وبأسلحة أكثر تطورًا.
فحين يفشل الاحتلال في فرض الخضوع العسكري، يحاول فرض الخضوع السردي: أن يكتب هو القصة، وأن يملي على العالم من كان القاتل ومن كان القتيل.

ما الذي تخشاه إسرائيل؟

لا تخشى إسرائيل الصواريخ الصغيرة بقدر ما تخشى الوعي الكبير.
فكل يوم يمرّ ويستمر فيه صمود الغزيين، ينهار جزء من الرواية الإسرائيلية في الخارج.
هي تخاف من أن يدرك العالم أن الشعب المحاصر منذ عقدين ما زال يقاوم رغم الجوع والدمار، لأن تلك الحقيقة وحدها كفيلة بنسف كل دعايتها.
ولهذا تصرخ إسرائيل بأن “حماس تقتل شعبها”، وكأنها تقول للعالم: أنقذونا من الحقيقة قبل أن تفضحنا.

إسرائيل في مأزق أخلاقي لا في انتصار عسكري

بعد عامين من القصف الممنهج، لم تحقق إسرائيل سوى ما تخشاه أكثر: عزلة أخلاقية متزايدة.
فلم يعد أحد يصدق أن جيشًا يقتل آلاف الأطفال ويمحو مدينة بأكملها “يدافع عن نفسه”.
حتى أكثر أنصارها في الغرب باتوا في حرج أمام كاميرات الواقع.
لهذا تسعى إسرائيل إلى تعويض فشلها الأخلاقي بتضخيم خطابها الإعلامي، لتجعل من حماس واجهة تُخفي خلفها جريمة دولة تتصرف ككيان فوق القانون.

خلاصة: الاحتلال آخر من يتحدث عن إنسانية

حين يتحدث من دمّر البيوت على رؤوس سكانها عن “حقوق المدنيين”، يصبح الصمت شراكة في الجريمة.
وحين يتهم من قصف المساجد والكنائس والملاجئ غيره بأنه يقتل الأبرياء، يصبح الكذب سلاحًا من أسلحة الحرب.
إسرائيل لا تريد إنهاء المقاومة، بل إنهاء فكرة المقاومة، كي تبقى وحدها من يعرّف الخير والشر، والعدالة والإرهاب، والحياة والموت.

لكن الحقيقة التي لا تستطيع طائراتها محوها هي أن غزة، رغم الركام، ما زالت تكتب بدمها جملة واحدة:

“من يقتلنا ثم يتهمنا بقتل أنفسنا… لا ينتصر، بل ينهار أخلاقيًا إلى الأبد.”


صورة واقعية (Photorealistic) لحيّ مدمر في غزة بعد القصف، تظهر فيه أنقاض بيوت مهدمة بالكامل تمتد إلى الأفق، وسط غبار رمادي كثيف يغطي السماء. في مقدمة المشهد، أمّ غزية تحمل طفلها وتنظر نحو الخراب بصمتٍ ثقيل، وخلفها مئذنة مسجد مهدمة جزئيًا إلى جانب صليب كنيسة متكسر، في رمزية لوحدة الألم تحت القصف.
الإضاءة خافتة مائلة إلى الغروب، تُظهر اللون البرتقالي الشاحب المنعكس على الركام، كأن المدينة تشتعل ببطء من الداخل.

التعبير البصري: ليس مشهد حرب فقط، بل مشهد شهادة — شهادة على من يقتل الحقيقة مع الإنسان. 

+
أحدث أقدم

ويجيد بعد المقال


تنويه: هذا المقال (أو المحتوى) يقدم تحليلاً إعلامياً موضوعياً، ويخلو تماماً من أي تحريض أو دعوة للعنف، ويعكس رؤية نقدية متوازنة للأحداث، مع الالتزام التام بالأطر القانونية والمعايير المهنية.