نيسان: شركة على مفترق التاريخ


لم تكن نيسان يومًا مجرّد اسم في عالم السيارات، بل كانت تجسيدًا لمرحلة كاملة من الطموح الصناعي الياباني الذي جمع بين الحرفية والابتكار. غير أنّ العقود الأخيرة حملت للشركة ما يشبه الانحدار البطيء نحو فقدان البوصلة، إذ تراكمت أزماتها حتى غدت نموذجًا على تآكل الرؤية في الشركات الكبرى حين تتآكل قدرتها على قراءة التحولات. ما تعانيه نيسان اليوم ليس أزمة مبيعات أو أرباح فقط، بل أزمة هوية استراتيجية عميقة تكشف هشاشة بنيتها الإدارية والفكرية أمام التحوّل العالمي في صناعة السيارات.

أولاً: انهيار نموذج «الكم على حساب الكيف»

اعتمدت نيسان في العقدين الماضيين على استراتيجية توسّع قائمة على الحجم لا على القيمة؛ توسّع في الأسواق والطرز والمصانع دون ضبط متناسب للهوية التقنية أو التمايز في الجودة. فبينما كانت شركات مثل تويوتا تترسّخ في السوق عبر فلسفة الجودة المستمرة (Kaizen)، كانت نيسان تلاحق الأرقام؛ عدد السيارات المنتَجة والمباعة، لا قيمة السيارة في السوق أو مكانتها الرمزية.
هذا الخيار أدّى إلى ما يشبه «تضخّمًا مَرَضيًا» في البنية الإنتاجية، ومع تباطؤ الاقتصاد العالمي تَكشّف هشاشته؛ مصانع تعمل بأقل من طاقتها، طرازات متداخلة لا تحمل بصمة مميزة، وهوية تجارية مشوّشة بين الفخامة والاقتصاد. النتيجة: شركة ضخمة في الشكل، هشّة في الجوهر.

ثانيًا: الفجوة التكنولوجية والانفصال عن العصر الكهربائي

كانت نيسان من أوائل من دخلوا ميدان السيارات الكهربائية بإطلاق «Leaf»، لكنّها توقفت عند تلك اللحظة التاريخية كمن يكتفي بالمجد القديم. لم تطوّر هذا الإرث، ولم تُحدث نقلة جذرية في تقنيات البطاريات أو التصميم أو منظومة البرمجيات كما فعلت شركات منافسة أصغر عمرًا وأكثر جرأة.
تحوّلت نيسان من رائدةٍ في الكهرباء إلى «مُترددةٍ» في التحوّل، تقف بين عالمين: لا تزال تنتج سيارات احتراق تقليدية متقادمة، ولا تمتلك في المقابل منظومة كهربائية متكاملة قادرة على المنافسة مع تسلا أو بي واي دي الصينية.
هذا التردّد يكشف عن خلل في ثقافة القرار داخل الشركة؛ تردّد بين المحافظة والابتكار، بين الرؤية الهندسية التقليدية والبرمجيات التي أصبحت اليوم روح الصناعة.

ثالثًا: البنية الإدارية المثقلة وفقدان الحيوية المؤسسية

الأزمة ليست تقنية فقط، بل إدارية في جوهرها. بعد قضية كارلوس غصن، تحوّل هيكل نيسان إلى ما يشبه الجسم الحذر، الخائف من المغامرة، والمهووس بالمحاسبة أكثر من الإبداع.
فقدت الإدارة القدرة على اتخاذ قرارات حاسمة، وغرقت في بيروقراطية يابانية مفرطة الدقة لكنها عقيمة أمام متغيرات السوق السريعة.
وما يزيد الصورة قتامة هو تصاعد التوتر داخل تحالف «رينو-نيسان-ميتسوبيشي»، إذ تحوّل التحالف من ميزة إلى عبء؛ تضارب مصالح، رؤى متناقضة، وصراع خفي بين المركز الفرنسي والشريك الياباني حول من يوجّه دفة السفينة.
في النتيجة، أُنهكت نيسان في صراعاتها الداخلية بدل أن تُنفق طاقتها على إعادة ابتكار ذاتها.

رابعًا: أزمة السمعة وثقة السوق

منذ هروب غصن الشهير من طوكيو إلى بيروت، أصبحت نيسان في عين العاصفة الإعلامية، وتحوّلت سمعتها من رمز للصرامة والانضباط إلى مثال على الانقسام والاتهامات المتبادلة داخل الإدارة اليابانية.
تراجعت ثقة المستثمرين، وخفضت وكالات التصنيف الائتماني مثل Moody’s تقييمها إلى «درجة خردة». هذا الانحدار في الثقة لا يُقاس بالأرقام وحدها، بل في الطريقة التي باتت تُدرَك بها الشركة عالميًا: كعلامة غير مستقرة، تفتقر إلى رؤية قيادة موحدة.
إن فقدان الثقة لا يُصلَح بسهولة، لأنه يتغلغل في الصورة الذهنية للمستهلكين والمستثمرين والموردين على حد سواء، ويؤثر في كل مفصل من مفاصل السوق.

خامسًا: ضغط الأسواق العالمية وتآكل الحضور

بين الأسواق الغربية التي تزداد حمائيةً والآسيوية التي تتسارع فيها المنافسة، تبدو نيسان اليوم عالقة في المنتصف.
في الولايات المتحدة تواجه ضرائب وتكاليف إنتاج متصاعدة، وفي الصين تخسر موقعها أمام شركات محلية تمتلك جرأة الابتكار وسرعة التطوير.
حتى في السوق اليابانية نفسها، التي كانت حصنها التقليدي، تراجعت حصتها أمام منافسين مثل تويوتا وهوندا الذين طوّروا منظومات هجينة وكهربائية أكثر تكاملًا.
وما يزيد الأزمة تعقيدًا أن نيسان لا تملك اليوم طرازًا يُشكّل «رمزًا» لعلامتها كما كانت سابقًا سيارات Skyline أو Patrol، بل قائمة مشتتة من الموديلات المتوسطة التي لا تُلهم المستهلك.

سادسًا: أزمة الرؤية لا أزمة المبيعات

حين تفقد الشركة قدرتها على صياغة رؤية، تبدأ بالانحدار مهما بلغت قوتها المالية. نيسان اليوم لا تعرف على وجه الدقة من تكون: هل هي شركة سيارات تقليدية محافظة تحتمي بتاريخها الياباني؟ أم شركة عالمية تبحث عن موقع في ثورة الكهرباء والبرمجيات؟
هذا التشتّت في الهوية هو لبّ أزمتها، وهو ما يجعل كل سياساتها تبدو ترقيعًا لا بناءً جديدًا. فحتى محاولات إعادة الهيكلة الأخيرة جاءت كردّ فعل على التدهور لا كمبادرة استراتيجية واعية.

سابعًا: قراءة أعمق – حين تستهلك البيروقراطية روح الابتكار

ربما الدرس الأهم في حالة نيسان هو أن المؤسسات حين تتضخم وتفقد روح المغامرة، تبدأ في التحلّل من الداخل قبل أن يلمس السوق ذلك.
فالثقافة الإدارية التي صنعت معجزة الصناعة اليابانية في منتصف القرن الماضي – الانضباط والدقّة والولاء – تحوّلت في نيسان إلى عبءٍ يُقيد حرية القرار ويخنق روح الابتكار.
لم تعد نيسان تفكر بعقلية "كيف نتفوّق؟"، بل بعقلية "كيف لا نخطئ؟"، وهذا هو الفارق بين شركة تصنع المستقبل وأخرى تستهلك ماضيها.

خاتمة

ما تعانيه نيسان ليس أزمة طارئة، بل تحوّل تاريخي في مسارها الصناعي والإداري.
إنها تعاني من فقدان الاتجاه، ومن تكلّسٍ إداري يرفض الاعتراف بأن قواعد اللعبة تغيّرت. فالعالم يسير نحو البرمجيات والذكاء الصناعي والتصميم المتكيّف، بينما ما زالت نيسان تتعامل مع السيارة كمنتج ميكانيكي تقليدي.
من الخارج تبدو نيسان شركة ضخمة، لكنها من الداخل تشبه سفينةً عملاقة فقدت بوصلة القيادة، تواصل الإبحار بالقصور الذاتي وسط أمواج لا ترحم.

+
أحدث أقدم

ويجيد بعد المقال


تنويه: هذا المقال (أو المحتوى) يقدم تحليلاً إعلامياً موضوعياً، ويخلو تماماً من أي تحريض أو دعوة للعنف، ويعكس رؤية نقدية متوازنة للأحداث، مع الالتزام التام بالأطر القانونية والمعايير المهنية.