
الإغراق كأداة للسيطرة
تتبع الصين في هذا المجال ما يُعرف بـ"الإغراق الاستراتيجي"، أي بيع السلع في الأسواق الخارجية بأسعار أقل من كلفتها الفعلية لفترة طويلة، حتى تُقصي المنافسين وتفرض حضورها كخيار وحيد أو مهيمن.
ولأن صناعة الدراجات النارية اليابانية والهندية اعتمدت لعقود على الجودة مقابل السعر، فقد وجدت نفسها عاجزة أمام المنافس الصيني الذي جاء بخطة معاكسة: التنوّع المفرط، السعر الصادم، وسرعة الإمداد.
فبينما تحتكر الشركات اليابانية فئة أو فئتين من السوق، تأتي الشركات الصينية بعشرات الموديلات تغطي كل الاحتياجات، من دراجات التوصيل الصغيرة إلى الدراجات الرياضية والمغامرات وحتى الشرطية.
بنية إنتاج لا تعرف الفواصل
تعمل المنظومة الصناعية الصينية وفق فلسفة “تشظية التصنيع”؛ فكل مدينة أو مقاطعة متخصصة في نوع محدد من المكونات: محركات، هياكل، كابلات، فرامل، أو إطارات.
هذا التشظي لا يعني الفوضى، بل يخلق مرونة وسرعة إنتاجية هائلة، لأن كل جزء يمكن استبداله بآخر من مورد محلي، دون انتظار استيراد أو توريد خارجي.
وبفعل هذا النظام، يمكن لأي مصنع في الصين أن ينتج مئات النماذج المختلفة في وقت قصير وبكلفة منخفضة، ما يمنحه قدرة على إغراق الأسواق بأحجام وأنواع متعددة تفوق قدرة أي منافس عالمي.
كما أن غياب القيود البيئية الصارمة، وانخفاض أجور العمالة، واعتماد الإنتاج المحلي الكامل للمكونات، يجعل الكلفة النهائية للدراجة الصينية أدنى بما لا يقل عن 40٪ من نظيرتها اليابانية أو الأوروبية.
الأسواق النامية: ميدان التوسع المفضل
منذ مطلع الألفية الجديدة، رأت الصين أن الأسواق النامية هي الفضاء المثالي لبسط هيمنتها الصناعية.
فالمجتمعات ذات الدخل المتوسط والمنخفض تحتاج إلى وسيلة نقل اقتصادية وسهلة الصيانة، والدراجات النارية كانت الخيار الطبيعي.
لذا وجّهت بكين مصانعها إلى إنتاج موديلات لكل فئة اجتماعية ممكنة:
-
دراجات صغيرة للمراهقين والطلاب،
-
موديلات اقتصادية للتوصيل والخدمات،
-
نماذج متوسطة للعائلات،
-
وأخرى أقوى لهواة السفر والطرقات الطويلة.
ولم تكتفِ الصين بذلك، بل أطلقت عشرات العلامات التجارية الفرعية، حتى تبدو المنتجات وكأنها من شركات مستقلة، بينما هي في الواقع تعود إلى مصانع واحدة. هذه الاستراتيجية المتقنة تمنح المستهلك شعورًا بالتنوع والمنافسة، بينما يشتري في الحقيقة من المصدر ذاته.
الهيمنة بالقطع قبل الهيمنة بالمنتج
ما يميز الاختراق الصيني أكثر من الدراجات نفسها هو شبكة قطع الغيار.
فالدول التي تستورد هذه الدراجات تجد نفسها لاحقًا مضطرة للاعتماد على نفس السوق الصيني لتوريد القطع والإكسسوارات والإلكترونيات.
بهذا تتحول الهيمنة من بيع سلعة إلى احتكار سلسلة القيمة بأكملها: التصنيع، الصيانة، الإمداد، وحتى التدريب الفني.
وبمرور الوقت، تصبح البنية التحتية في تلك البلدان — من الورش إلى المحلات — قائمة على المعيار الصيني، فلا تستطيع بسهولة التحول إلى منتجات أخرى.
وهكذا تُحكم الصين قبضتها الاقتصادية الناعمة دون الحاجة إلى قرارات سياسية أو تحالفات رسمية.
وجه سياسي لمشروع صناعي
في جوهره، هذا الغزو الصناعي ليس تجاريًا بحتًا، بل جزء من رؤية الصين لبناء نفوذ عالمي عبر الاقتصاد الواقعي.
فبينما تركز القوى الغربية على النفوذ المالي والرقمي، تبني الصين سلطتها من خلال سلع ملموسة تصل إلى حياة الناس اليومية: الهاتف، الدراجة، اللوح الشمسي، البطارية، وحتى المروحة.
إنها سياسة "الهيمنة بالاحتياج" — أي أن تجعل الآخر محتاجًا لك في أبسط ضرورات حياته.
وفي هذا الإطار، تمثل الدراجات النارية أحد أنجح تطبيقات هذا النموذج؛ فهي تدخل إلى الأسواق بأشكال براقة وأسعار مغرية، لكن خلفها شبكة مصالح تربط السوق المحلي بعصب الصناعة الصينية لعقود قادمة.
من الكم إلى الكيف
المرحلة التالية من المشروع الصيني بدأت بالفعل: الانتقال من الكم إلى الكيف.
فبعد أن ضمنت الصين حصة تتجاوز 60٪ من الإنتاج العالمي، بدأت تُعيد تعريف مفهوم الدراجة نفسها.
فصارت تنتج دراجات كهربائية ذكية مزودة بأنظمة تتبع وشحن سريع وشاشات رقمية، وبأسعار نصف مثيلاتها اليابانية.
ومع سيطرتها المتزايدة على سوق البطاريات والمحركات الكهربائية، فإنها تمهّد لتكرار السيناريو ذاته في الجيل الجديد من النقل الخفيف.
الخاتمة: الهيمنة التي تمشي على عجلتين
ما يبدو للعين مجرد تنوّع في موديلات الدراجات الصينية هو في الواقع تجلٍّ لمشروع نفوذ عالمي متدرّج، تتقدم فيه الصين بخطى صامتة، من الشوارع الخلفية في المدن الصغيرة إلى صالات العرض في العواصم الكبرى.
إنها لا تبيع دراجة فقط، بل تزرع نظامًا اقتصاديًا متكاملًا يجعل المستورد والمستهلك والمصلّح جميعًا يدورون في فلكها.
هكذا تُمارس الصين هيمنتها الناعمة — لا عبر الحروب أو التحالفات — بل عبر المحركات الصغيرة التي تملأ طرق العالم بصوت واحد: "صُنع في الصين".