ثورات الزهور: ثورة القرنفل – عندما أزهرت البنادق في لشبونة

في صباحٍ من ربيع عام 1974، كانت البرتغال تستيقظ على رائحة غريبة لم تألفها في انقلاباتها السابقة. لم تكن رائحة البارود، بل عبير القرنفل الأحمر الذي تفتّح في فوهات البنادق. لم تُطلق رصاصة واحدة، ولم تتدحرج رؤوس على أرصفة لشبونة، ومع ذلك سقطت دكتاتورية امتدت أربعة عقود. كانت «ثورة القرنفل» حدثًا نادرًا في سجلّ السياسة الأوروبية، لا لأنها أطاحت بنظام سلطوي فحسب، بل لأنها أعادت تعريف معنى الثورة ذاتها: أن تكون سلمية، شاعرية، ومع ذلك حاسمة في كسر حلقة الطغيان.

المشهد العام قبل الثورة

كانت البرتغال في سبعينيات القرن العشرين دولةً متأخرةً محكومة بقبضة الحديد. منذ عام 1933، فرض أنطونيو دي أوليفيرا سالازار نظامًا قوميًا استبداديًا قائمًا على الرقابة، والمخابرات، وتحالف الكنيسة مع الجيش. وبعد مرضه، تولّى خلفه مارسيلو كايتانو السلطة، مواصلًا النهج نفسه تحت شعار “الاستمرارية مع التحديث”.
غير أن البلاد كانت تنزف على جبهات بعيدة؛ فقد استنزفتها حروبها الاستعمارية في أنغولا وموزمبيق وغينيا بيساو، فيما كان الشباب البرتغالي يُساق إلى معارك لم يعد يؤمن بها أحد. الاقتصاد ينهار، والمجتمع يختنق، والجنود العائدون من المستعمرات يجرّون خيبة وطنٍ أُنهك بلا جدوى. في تلك اللحظة، بدأ الوعي يتكوّن داخل صفوف الجيش ذاته بأن الانقلاب ليس ضد الشعب، بل لأجله.

الرمز والمعنى

زهرة القرنفل لم تكن اختيارًا دعائيًا لاحقًا، بل ولدت من مشهد عفوي سيبقى خالدًا في الذاكرة الأوروبية. ففي يوم الثورة، كانت عاملة في أحد المطاعم تُقدّم للجنود طعام الإفطار، ثم ناولتهم باقة قرنفل لتزيين بزّاتهم العسكرية. فغرسوها في فوهات بنادقهم علامة على أن البنادق اليوم لن تقتل أحدًا.
تحوّل القرنفل إلى بيان رمزي للسلام، جمال مقابل دم، وولادة جديدة مقابل موت قديم. حملت الزهرة معاني البراءة التي غابت عن السياسة الأوروبية منذ الحرب العالمية الثانية، وأعادت فكرة أن التغيير لا يحتاج إلى مجازر كي يُكتب في التاريخ. وهكذا أصبحت الثورة «مشهداً جمالياً» قبل أن تكون تحولًا سياسيًا، وهو ما منحها جاذبية رمزية استثنائية في الذاكرة العالمية.

التحرك والمواجهة

بدأت الثورة في 25 أبريل 1974 بقيادة حركة الضباط الشباب في الجيش، الذين أطلقوا على أنفسهم «حركة القوات المسلحة». استخدموا الإذاعة كوسيلة إعلان رمزية، فكانت إشارة الانطلاق أغنية محظورة بعنوان Grândola, Vila Morena — أغنية تتحدث عن المساواة والأخوة.
تحركت الدبابات إلى العاصمة، لكن الجماهير خرجت لاستقبالها بالزهور والهتافات لا بالحجارة. لم تستغرق العملية أكثر من بضع ساعات حتى أُجبر كايتانو على الاستسلام واللجوء إلى منفى هادئ في البرازيل. سقط النظام الذي طالما وصف نفسه بـ“الطويل الأمد”، بطريقة لم يتوقّعها أحد، وبأقلّ كلفة في التاريخ الحديث.

الدور الدولي والإعلامي

في زمن الحرب الباردة، لم تمرّ الثورة دون اهتمام القوى الكبرى. رأت واشنطن في الحدث احتمالًا خطيرًا لتسلّل النفوذ اليساري إلى أوروبا الغربية، فيما تابعه الاتحاد السوفيتي بحذر دون تدخل مباشر. الإعلام الغربي، من جهته، صوّرها بوصفها نموذجًا للانتقال الديمقراطي السلس، مقدّمًا البرتغال كبلد تحرّر “بابتسامة”.
لكن خلف هذه الصورة المثالية، كانت البرتغال تواجه معضلات عميقة: انهيار مستعمراتها الخارجية، وضياع مواردها، وتنازع القوى السياسية بين اليسار الثوري واليمين المحافظ. هنا تحديدًا بدأت سردية “الثورة الجميلة” تُستخدم كقناع سياسي يغطي فوضى ما بعد الانتصار.

النتائج والمآلات

أنهت الثورة عهد الإمبراطورية البرتغالية، وفتحت الباب أمام استقلال المستعمرات الإفريقية. داخليًا، تمكّنت البلاد من إقرار دستور ديمقراطي عام 1976، وإجراء أول انتخابات حرّة منذ عقود.
غير أن التحول لم يكن خاليًا من الارتباك؛ فقد شهدت السنوات التالية اضطرابات اقتصادية وصراعات فكرية حول هوية الدولة الجديدة. ومع ذلك، نجحت البرتغال تدريجيًا في تثبيت نظامها الديمقراطي، وانضمت إلى الاتحاد الأوروبي عام 1986، لتتحوّل من دولة منغلقة فقيرة إلى نموذج أوروبي للاستقرار السياسي.
بيد أن هذا النجاح لم يُلغِ حقيقة أن الثورة، وإن بدت وردية اللون، كانت جزءًا من إعادة ترتيب ما بعد الإمبراطوريات في أوروبا. فبينما احتفى العالم بجمال القرنفل، كانت البرتغال تُجبر على الانسحاب من العالم الذي بنته بالقوة لقرون.

التحليل النقدي الختامي

«ثورة القرنفل» ليست مجرد قصة رومانسية عن جيشٍ يوزّع الزهور بدل الرصاص، بل تجربة عميقة في إدارة الصورة الثورية. لقد تحوّل الجمال إلى أداة سياسية، واكتسبت السلمية وظيفة رمزية مكافئة للانتصار العسكري.
في جوهرها، كانت الثورة تمرّدًا على الاستبداد، لكنها أيضًا بوابة انتقال من زمن الإمبراطورية إلى زمن التبعية الأوروبية الجديدة. الغرب احتفى بها لأنها كانت نموذجًا آمنًا للتغيير، لا يهدّد البنية الرأسمالية، بل يعيد ترتيبها على نحو أكثر طواعية للنظام الأوروبي المشترك.
إنها الثورة التي لقّنت العالم درسًا في الجمال السياسي: أن السلمية قد تُنتج التغيير، لكن الجمال وحده لا يضمن العدالة.

سلسلة: ثورات الزهور: صناعة الصورة المثالية للثورة السلمية

+
أحدث أقدم

ويجيد بعد المقال


تنويه: هذا المقال (أو المحتوى) يقدم تحليلاً إعلامياً موضوعياً، ويخلو تماماً من أي تحريض أو دعوة للعنف، ويعكس رؤية نقدية متوازنة للأحداث، مع الالتزام التام بالأطر القانونية والمعايير المهنية.