البرازيل: ريو دي جانيرو: عندما تقتل الدولة فقرها وتسمّيها حربًا على الجريمة

لا شيء يفضح زيف مفهوم “الأمن” مثلما تفعله مدينة ريو دي جانيرو. فحين تُرسل الدولة آلاف الجنود إلى أحيائها الفقيرة تحت عنوان «مكافحة الجريمة»، فإنها في الحقيقة تُعلن حربًا على الفقر ذاته، لا على الجريمة. فالعنف هنا ليس انحرافًا عن النظام، بل هو نتاجه؛ هو الأداة التي تُعيد بها الدولة رسم حدود السيطرة قبل أن تستقبل العالم في قمة المناخ المقبلة. ريو إذًا ليست مجرد ساحة مواجهة بين الشرطة والعصابات، بل مرآة تكشف كيف تقتل الدولة أبناءها باسم حماية المجتمع.

الفافيلا: الأحياء التي وُلدت خارج الخريطة

أحياء الفافيلا لم تنشأ نتيجة الفوضى، بل نتيجة السياسات الطبقية التي همّشت فقراء البرازيل لعقود. بُنيت تلك الأحياء خارج حدود التخطيط المدني، بلا مياه ولا صرف ولا مدارس ولا تمثيل سياسي. تركتها الدولة لتواجه مصيرها، ثم عادت لتقصفها حين صارت خارج سيطرتها.
في غياب الدولة، وُلدت سلطة موازية: شبكات الجريمة المنظمة، التي وإن كانت خارجة عن القانون الرسمي، إلا أنها أقامت قانونًا خاصًا بها. وفّرت الحماية للسكان، وفرضت الضرائب، ونظّمت الحياة اليومية داخل الفافيلا. ومن هنا نشأ التناقض المزدوج: دولة تحكم الأغنياء بالقانون، وتقتل الفقراء بالقوة.

العملية الأمنية: تجميل وجه الدولة قبل القمة

حين أطلقت السلطات البرازيلية حملتها الأخيرة، قبل أسابيع من قمة COP30 التي ستستضيفها البلاد، لم يكن الهدف استعادة الأمن بقدر ما كان استعراضًا للسيطرة أمام المجتمع الدولي.
ففي ظل عدسات العالم التي تستعد لمراقبة البرازيل، لا تريد الحكومة أن تُظهر صورة العاصمة وقد تحاصرها العصابات. ولذلك شُنّت عملية بمشاركة أكثر من 2500 عنصر من القوات الخاصة، أسفرت عن عشرات القتلى من المدنيين والمشتبه بهم على حدّ سواء.
لكن خلف هذا “النصر الأمني” المؤقت، يكمن مأزق أعمق: الدولة لم تُنهِ الجريمة، بل أعادت توزيعها. من يموتون في الفافيلا ليسوا ضحايا الجريمة فقط، بل ضحايا الحاجة إلى إظهار النظام أمام العالم.

قمة المناخ.. والبيئة السياسية الملوّثة

المفارقة القاسية أن العملية جاءت باسم “تهيئة البلاد لقمة المناخ”.
العالم سيجتمع في البرازيل لمناقشة التلوث والاحتباس الحراري، فيما تُغطّي المدينة سحابة من الدخان والبارود.
هذا التناقض ليس تفصيلاً عابرًا، بل هو جزء من الخطاب المزدوج الذي يحكم العالم: تُستخدم القمم الدولية لإعادة تلميع الدول أمام المجتمع الدولي، في حين تُستخدم العمليات الأمنية لإعادة فرض السيطرة داخليًا.
فما يُسمّى «التنمية المستدامة» في الخطاب البيئي العالمي، يقابله في الواقع عنف مستدام ضد المهمّشين داخل الدول. وهكذا تتحوّل ريو دي جانيرو إلى مختبر مصغّر لعالم يُعيد إنتاج التفاوت تحت أسماء جديدة.

شرعية العنف: حين يصبح القتل إصلاحًا

الخطير في خطاب الدولة أنه لا يُبرّر العنف فقط، بل يحوّله إلى فضيلة وطنية.
الشرطة تُقدَّم بوصفها “تحمي المواطنين”، بينما الضحايا يُقدَّمون كمجرمين أو مشتبه بهم.
هذه اللغة ليست بريئة؛ إنها آلية لتطبيع القتل وتخدير الضمير العام. فالناس لا يرون الجثث كضحايا للفقر، بل كأدوات لتنظيف المدينة.
النتيجة: تتحوّل الحرب على الجريمة إلى سياسة تنظيف اجتماعي، تُصفّى فيها الفافيلا كما تُصفّى الأحياء القديمة قبل المشاريع الاستثمارية الكبرى.
بهذا المعنى، ما يحدث في ريو ليس استثناءً، بل نموذج عالمي لآلية حكم جديدة: إدارة الفقر بالقمع، وإدارة الرأي العام بالدعاية.

الفساد كأداة تنظيم لا فوضى

غالبًا ما تُقدَّم العصابات كرمز للفوضى، لكنّها في الواقع جزء من نظام مستقرّ يعتمد عليها بقدر ما يقمعها.
فكثير من عمليات التهريب وتجارة السلاح والمخدرات تمر عبر شبكات متداخلة بين عناصر من الشرطة والسياسة والجريمة.
كلّ طرف يملك حصّته من السوق.
وحين تتغيّر موازين القوى، تُطلق الدولة “عملية تطهير” لتعيد توزيع النفوذ.
من هنا نفهم أنّ ما يجري ليس “استعادة للنظام”، بل إعادة ترسيم لمناطق السيطرة بين مراكز القوة داخل الدولة وخارجها.

العنف كآلية استقرار

في الدول التي لم تكتمل فيها العدالة الاجتماعية، يصبح العنف هو الغراء الذي يُبقي النظام قائمًا.
فالدولة التي تعجز عن تحقيق المساواة، تلجأ إلى الخوف كأداة للحكم.
وحين تقتل الفقراء، لا تفعل ذلك بدافع الكراهية، بل بدافع البقاء؛ لأن وجودهم الحرّ يذكّرها بحدود شرعيتها.
وهكذا تستمر الحلقة الجهنمية: فقر يولّد جريمة، جريمة تبرّر عنفًا، وعنف يُعيد إنتاج الفقر.
إنها دورة جبر سياسي واجتماعي لا تنكسر إلا حين يُعاد تعريف معنى الدولة نفسها: هل هي حامية الإنسان أم حامية صورتها أمام العالم؟

البعد الأخلاقي والسياسي لما يحدث

ما يجب أن يُسأل اليوم ليس: من أطلق النار أولاً؟ بل: من صنع هذا الواقع أصلًا؟
السلطة التي تترك ملايين المواطنين في التهميش، ثم تُرسل إليهم الدبابات، لا تبحث عن العدالة بل عن الهيمنة الرمزية.
إنها تُعيد ترسيم خريطة الطاعة، وتختبر قدرة المجتمع على التبرير.
فكلّ طلقة تُطلقها الدولة هناك، تُعيد رسم حدود ما يمكن التسامح معه من عنف “شرعي”.
وبهذه الطريقة، يتحوّل الأمن إلى لغة للسيطرة، والعدالة إلى شعار لتثبيت الظلم.

خاتمة

ريو دي جانيرو ليست حادثة محلية، بل علامة على عصر جديد من الحكم:
عصر تذوب فيه الحدود بين الدولة والعصابة، وبين الشرعية والعنف، وبين الأمن والاستعراض.
ما يجري اليوم في البرازيل هو صورة مصغّرة لما يحدث في أماكن كثيرة من العالم: دول تقتل فقرها لتبدو متحضّرة، تُخيف شعوبها لتبدو مستقرة، وتُسكت الضحايا لتُرضي الكاميرات.
إنها ليست حربًا على الجريمة، بل حربًا على من يُذكّرون العالم بأنّ الجريمة الحقيقية هي فيمن يملك أن يقتل دون أن يُدان.

+
أحدث أقدم

ويجيد بعد المقال


تنويه: هذا المقال (أو المحتوى) يقدم تحليلاً إعلامياً موضوعياً، ويخلو تماماً من أي تحريض أو دعوة للعنف، ويعكس رؤية نقدية متوازنة للأحداث، مع الالتزام التام بالأطر القانونية والمعايير المهنية.