
تشكيل وعي الاقتصاد: شعار النمو والعدالة
عندما تُعلن الحكومات أو المؤسسات الدولية بأن «النمو هو الحل»، يغدو ذلك خطاباً لا يُناقَشُ غالبًا بعمق. إذ يُصوَّر النموّ بوصفه بُعدًا أخلاقياً بقدر ما هو اقتصادي: إن تصل الدولة إلى معدّل نموّ كافٍ، تعتبر نفسها قد وفّرت العدالة والرفاه. لكن الواقع يُظهر أن هذا الربط ليس تلقائياً، وأن ما يُنتَج غالباً من النمو ليس موازياً لتوزيع السلطة أو الثروة أو المشاركة.
في الخطاب الإعلامي، ينطبع النموّ كإدانة لأي تقاعُس: «لماذا تنمو بلدك أقلّ من غيرك؟» — بلا أن يُذكر كيف تُوزّع الفوائض، أو كيف تُهيّأ البُنى الداخلية لتوظيفها. وهنا تكمن وظيفة التنويم الإعلامي: تحويل النموّ إلى مِقياس ذهني ومُعطى أخلاقي، بينما تظل الأسئلة الجوهرية مثل «من ينتفع؟» و«من يُستثنى؟» خارج دائرة النقاش.
منطق التصدير وسلسلة القيمة العالمية
في قلب هذا الخطاب يكمن ما يمكن تسميته «اقتصاد التبعية المُصنّعة»: حيث تُرفَع شعارات التصدير والتكامل في الأسواق العالمية، لكن هيكل المجزّأ للقيمة والسلع يعيد إنتاج عدم المساواة الجغرافية والطبقية.
بحسب تحليل لتجربة العولمة النيوليبرالية، فإن الدول التي فتحت أسواقها وتبنت إصلاحات السوق الحرّ لم تشهد بالضرورة معدّلات نموّ أعلى، بل غالباً استُفِيد منها كمصانع سلطوية أو مراكز تعبئة خامات تُصدّر للهيمنة العالمية. 
وهكذا، يُصنع النموّ كإجابة خارجية تُقدَّم للمجتمعات، بينما تُهمّش إعادة توزيع القدرة الاقتصادية والسياسية داخل البلد ذاته.
التداخل الإعلامي والسياسي في تشكيل السياسات الاقتصادية
الحديث عن النمو والعدالة والرفاه ليس مجرد نقاش اقتصادي بحت، بل هو مسرح إعلامي–سياسي يضمّ جهات مؤثرة: شركات استشارية، بنوك عالمية، وسائط إعلامية، وحكومات. فهذه الأطراف تجتمع في إنتاج سردية «النمو الصحيح» التي تُروّج لها السياسات والبرامج التنموية.
الخطاب الإعلامي يشيد بأن «الاقتصاد يتحسّن، والتجارة تنفتح، والاستثمار يتدفّق»، ويقلّ من شأن الأسئلة حول من يملك المصانع، ومن يُعفى من الضرائب، ومن يُدوّل الثروات. ثمّة تلاعب لغوي/رمزي: تُضخ الشعارات الكبرى (النمو، العدالة، الرفاه)، بينما المحتوى الحقيقي — مثل بنية الملكية أو استدامة البيئة أو مشاركة العمال — يُهمّش أو يُخفى.
وما يجعل هذا الأمر أخطر هو أن المقروء من وسائل الإعلام غالباً لا يتجاوز وصف «زيادة الناتج المحلي» و«تحسّن المؤشرات»، دون أن يُفكّر في كيفية ارتباط هذه المؤشرات بحياة الناس اليومية.
ومن ثمّ، يُعاد إنتاج عقلية مفادها: «إذا نما الاقتصاد، ستنمو أنا أيضاً». لكن ما إن تترسّخ هذه العقلية، حتى يُصبح السؤال عن التوزيع أو عن السلطة السياسية خارج نطاق الاعتبار.
اقتصاد الوهم يُكتَب: النمو كأداة للهيمنة
يمكن اعتبار النموّ اليوم أداة رمز-قوة، تُستخدم في إعادة إنتاج هيمنة رأس المال. فبينما يُعلن عن «نمو اقتصادي مرتفع»، قد يكون هذا النموّ قد بني على الخدمات المالية الفاشلة، أو على بناء بنى تحتية مديونة لا تُحقق إنتاجية حقيقية. 
كذلك، تخلّف هذه السياسات أثرًا معرفيًّا: إذ يُعلّم الفرد أن نجاحه مرهون بنمو الاقتصاد العام، بينما يُهمَش سؤال: هل يمكن لعامل بسيط أن يحصل على حصة من هذا النمو؟ وهل أن النموّ حرٌّ من هيمنة رؤوس الأموال الكبرى؟
بذلك، لا يعد النموّ بوصفه هدفًا بل يصبح معيارًا شرعيًا. ويبدأ رأس المال في القول: «نحن نُحقّق النموّ، فهل تريد أن ترفضه؟». وتحول المعارضة إلى «رفض للنموّ = رفض للتقدّم».
هذا التحول يعيد إنتاج التبعية: إذ تصبح بلدان الجنوب – أو فئات واسعة في العالم – مرتبطة بمُعالجات نموّ مفروضة عليها، تُشرف عليها مؤسسات دولية، وتُحدد وسائل الإعلام مسارها الرمزي.
خاتمة نقدية: تفكيك الوعي الاقتصادي الزائف
في نهاية المطاف، ما يدعونا إلى «سلسلة اقتصاد الوهم» هو أن النموّ ليس بالضرورة طريقاً للعدالة أو الرفاه، بل يمكن أن يكون تغطية لمشاريع إعادة إنتاج السلطة والربح.
هل يمكن أن يُطرح سؤال جديد؟ لا عن كم نما الاقتصاد، بل عن من نما ومن بقي خارج الدائرة. لا عن كيف ارتفعت المؤشرات، بل كيف تغيّرت حياة الناس. لا عن نمو الناتج المحلي، بل عن نمو المشاركة والتمكين.
إن مهمّة المدونة التحليليّة ــ شأن «فروق» ــ هي الكشف عن أن النموّ بوصفه شعاراً وسرداً قد أصبح أحد أبرز أدوات التنويم الجماهيري: يُهدّئ الأزمات العميقة، ويحوّلها إلى مؤشرات معاد تسويقها.
ولأن الوعي يُصنع، فإن تفكيكه يعني أن ننتقل من السؤال «كم نما الاقتصاد؟» إلى «في أيّ مسار يُوجَّه النمو؟ ولمصلحة من؟». وعندها ربما يصبح الرفاه ليس شعاراً يُستهلَك، بل أفقاً يُتداول فيه حقّاً وفاعليّة.